عفرين، سياسات الحافة

يمثل اتفاق عفرين إنجازاً كبيراً لجهود "التقريب" بين دمشق وكردها، ويساعد في "احتواء" الرهانات التركية في شمال سوريا، إلا أنه غير كافٍ ومحفوف بالمخاطر، ولا بد من أن تعزّزه توافقات وموازنات بين فواعل رئيسة في المشهد مثل موسكو وطهران وأنقرة وحتى واشنطن. وهو ما يضع الحدث السوري تحت وطأة المواجهة والصِدام على الدوام.

يمثل اتفاق عفرين إنجازاً كبيراً لجهود "التقريب" بين دمشق وكردها

ما يجري في عفرين هو تهديدٌ وفرصةٌ في آن، وتكمن خلفه توافقات ومنافسات من النوع "السَّلَّال" حسب التعبير الشامي، ولكلٍ قصَّتُه ورهاناتُه فيه. أما وقد دخلت طلائع القوات السورية إلى عفرين، فقد انتهى فصلٌ ليبدأ آخر، لكن القصة لم تنته، ولا يستطيع أحد القول إنه حقق ما أراده بالتمام، ويبدو أن الكل رابح، لكن الكل مهدّد بالخسارة أيضاً، ولو أنهم ليسوا سواء.

انتظرت تركيا طويلاً حتى تحين اللحظة السانحة للتعامل مع "عقدة" عفرين، التي لم تتمكّن من تجاوزها أو التكيّف معها. وقد بدأت العملية التركية ضد عفرين بإيقاعٍ عسكري بطيء، واستخدامٍ محدود نسبياً للقوات، مقارنة بالأهداف المعلنة، ولولا أن ضحايا سقطوا وأن بِنىً وآثاراً دُمِّرَت لأمكن القول: إن المواجهات كانت في فضاء الإعلام أكثر منها على الأرض.

في الوقت الذي جرت فيه مداولات بين دمشق والكرد حول عفرين، كان الغزَل بين أنقرة وواشنطن في ازدياد، وقد عرضت الأولى في لقاء مع وزير الخارجية الأميركي تيلرسون "تمركُزَ قوات تركية وأميركية في منبج"، بالإضافة إلى إقامة "منطقة آمنة شمال سوريا". (الميادين، 16-2-2018). علماً أن عفرين تقع في منطقة النفوذ الروسي، حسب تفاهمات روسية-أميركية معروفة. وهذا لا يُطمئِن موسكو وطهران كثيراً، بل يُمثّل مصدر تهديد لأولوياتهما في شمال سوريا، ولتفاهماتهما مع تركيا نفسها.

اتهم الكردُ موسكو بالتواطوء مع تركيا بشأن عفرين، كما اتهموا دمشق بالتخلّي. وعلى الرغم من حاجتهم لدمشق في مواجهة العدوان التركي، إلا أنهم لم يتقدموا خطوة واحدة تجاهها، ولم يرفعوا علم سوريا في المدينة، واستمروا باستخدام تعابير مثل "جيش النظام" أو "قوات النظام"؛ ولو أن التطورات كشفت عن أن دمشق قدّمت دعماً عسكرياً للقوات الكردية في عفرين منذ البداية. (الميادين، 19-2-2018).

لدى دمشق وحلفاؤها مدارك تهديد مُتزامِنَة من جهة عفرين، لا تقتصر على خروج أنقرة على تفاهمات أستانة، وإنما تتعدّى ذلك إلى التقارُب مع واشنطن بما يتجاوز عفرين ومنبج إلى المشهد السوري ككل. وثمة مخاوف من أن تتم "تسوية" ما بين حليفي واشنطن الرئيسين في المشهد السوري وهما الكرد وتركيا، صحيح أن العداء بينهما كبير، إلا أن دوافع المساومة لديهما كبيرة أيضاً، كما أن كلمة واشنطن مسموعة عندهما إذا ما أوصلتها لهما بطريقة مناسبة. هذا ما اقتضى استجابة عاجلة من قِبَل موسكو، تدفع دمشق وكرد عفرين للتوصل إلى اتفاق لدخول القوات السورية إلى المدينة، والعمل على احتواء أية تطورات غير محسوبة.

الاتفاق على دخول الجيش إلى عفرين كان صعباً، ترى دمشق أن اشتراطات الكرد ثقيلة وأقرب للابتزاز. وعلى طريقة "تعا ولا تجي" كما في أغنية عربية معروفة، وضعوا شروطاً كان من الصعب على دمشق قبولها؛ ومثل ذلك بالنسبة لموقف الكرد من اشتراطات دمشق. وهكذا جاء الاتفاق "عسكرياً خالصاً" تقريباً، وقد تم بتأثير ضغوط وتطورات غيرية (روسية في المقام الأول) ولا متوقّعة. وهو اتفاق ينتج "حالة هجينة" شبيهة بالأوضاع في القامشلي مثلاً، على ما فيها من مخاطر  كبيرة، إذ تُقيم دمشق "قاعدة عسكرية في عفرين تكون قاعدة انطلاق باتجاه المناطق الحدودية مع تركيا، وباتجاه الجبهات المشتعلة مع الجيش التركي وحلفائه"، (الشرق الأوسط، 19-2-2018). بينما أُرجِئَت التفاصيل المتعلقة بالإدارة الحكومية إلى حوار بين الطرفين يجري بعد رد "الاعتداء التركي". هذا يثير أسئلة واجبة عن قوة الدفع الرئيسة لإتمام الاتفاق، ولماذا لم يكن الاتفاق استباقياً، ليكفي الجميع مؤونة المواجهة والقتال.

رحّبت تركيا بدخول قوات سورية إلى عفرين "شرطَ ضرب الإرهابيين" بتعبير وزير خارجيتها جاويش أوغلو. (الميادين، 19-2-2018)، ويمكن أن تتعاطى أنقرة مع الوضع الجديد بمستويين، الأول هو اعتبار دخول القوات السورية إلى عفرين مُناسباً، وقد تُصَوِّرُ الأمر بوصفه انتصاراً لها كونها "أبعدت" خصومها عن الحدود، ووضعتهم في عهدة الدولة السورية؛ ولكن لابد من مساومات تُمكِّنُها من تعزيز نُقاطِ مُراقَبَة وتَمَركُز وتمَدُّد في محيط عفرين وعلى مقربة منها، كما في إدلب. واذا لم يكن لها ذلك، وهذا هو المستوى الثاني، فسوف تدفع لمراجعة تفاهماتها مع موسكو وطهران، وقد أجرى أردوغان اتصالات مع الرئيسين بوتين وروحاني لبحث اتفاق عفرين. (الميادين، 19-2-2018). ويمكن أن تدفع بالجماعات المسلحة الموالية لها للمزيد من المواجهات ضد عفرين وغيرها.

يحقق الاتفاق في عفرين مكاسب عديدة لدمشق وكردها، إذ يخلق حيّزاً  جيّداً للتقارُب بينهما؛ ولموسكو إذ يشجع الكرد على موازنة اندفاعتهم نحو واشنطن؛ ولطهران إذ يعزّز سلطة الدولة السورية في منطقة حساسة في شمال سوريا، تجاه الكرد، وتجاه تركيا والجماعات الموالية لها هناك؛ وحتى لواشنطن نفسها إذ يكفيها تحدي "إدارةَ حربٍ" بين حليفين لها، تركيا والكرد.

لكن الاتفاق يثير مصادر تهديد أيضاً، وستبقى عفرين مُفَخَّخَة بالعنف والمواجهات طالما أنها "تفصل" بين مناطق تطمح تركيا للسيطرة عليها، وطالما استمرت لدى الكرد أحلام إقامة كيانية خاصة، ضمن الدولة السورية أو بالانفصال عنها، وطالما أن انشداد الكرد لواشنطن أكبر من انشدادهم لموسكو أو دمشق.

يمثل اتفاق عفرين إنجازاً كبيراً لجهود "التقريب" بين دمشق وكردها، ويساعد في "احتواء" الرهانات التركية في شمال سوريا، إلا أنه غير كافٍ ومحفوف بالمخاطر، ولا بد من أن تعزّزه توافقات وموازنات بين فواعل رئيسة في المشهد مثل موسكو وطهران وأنقرة وحتى واشنطن. وهو ما يضع الحدث السوري تحت وطأة المواجهة والصِدام على الدوام.