القاهرة والخرطوم، خلاف إفريقي يصبّ في آسيا
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وانتهاء حال السكينة النوعية لدى الشارع المصري تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، عاد المُجنّدون في صفوف القوات الإنكليزية على أنغام الشيخ سيّد درويش "سالمة يا سلامة، رحنا وجينا بالسلامة". هو ذاته الصوت الذي غنّى في العام التالي للدعوة لثورة 1919 ضد المُحتل والسراي الحاكِمة لتبدأ أساليب الاحتلال الناعمة في قمع الحراك بخطوة أولى وهي، إثارة الفِتَن بين جناحيّ المملكة المصرية: "مصر والسودان" ليعود هنا أيضاً صوت الثورة "درويش" في سلسلة من الأغنيات باللكنة السودانية تدعو إلى الوحدة بين الشعب الواحد "مصر والسودان".
مائة عام مرّت وثورتان قامتا في مصر، آخرهما ثورة يناير 2011، أعقبتهما تغيّرات جذرية في شكل العلاقة بين البلدين. تحديداً بعد التغيّرات السياسية المتوالية في مصر منذ عام 2011 بدأت العلاقات المصرية السودانية في أخذ منحنيات أخرى. فبينما يخوض محمّد مرسي عامه الرئاسي في مصر كانت القيادة السياسية السودانية تفتح الحديث بشأن ملف الحدود المصرية السودانية للمرة الأولى منذ تنحّي مبارك عن السُلطة، بل وللمرة الأولى بهذا الشكل الجاد على الإطلاق، وهنا بدأ مرسي "المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين" في استغلال علاقة الجماعة بالسُلطة السودانية في تهدئة الأمر، على اعتبار أن إثارة تلك القضية كانت نابعة من إرادة منفردة لحكومة الخرطوم، وهو الأمر الذي اتضّح عدم دقّته في ما بعد.
فمنذ عام 2011 وبالأخَصّ خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، مرّت العلاقات المصرية السودانية بتقلّبات حادّة ومتباينة صعوداً وهبوطاً من دون مؤشّر واضح نابع من صميم القضايا الخلافية أو التوافقية بين البلدين، بقدر أنه كان من الواضح أن تلك القضايا المُستكينة منذ عقود، لم تكن سوى أدوات مُستخدَمة في إدارة ملفٍ ما غرضه الأساس خلق ضغوط متبادلة بين مصر والسودان.
وبرصد بسيط سنجد تزامناً بين كُل تقارب سعودي/سوداني وتفجّر أزمة مصرية/سودانية، وبين كُل خلاف مصري/سعودي وتقديم المملكة السعودية لمساعٍ حثيثة لخلق تقارب مع حكومة السودان تحت أي بند من البنود، وعلى سبيل المثال تزامنت مناورات "الدرع الأزرق" العسكرية بين المملكة والسودان مع حال الغضب والسخط الإعلامي السعودي على النظام المصري ونشر دعاية تفيد بتقاعس مصر عن المشاركة في "عاصفة الحزم" المزعومة، وتزامن إعلان السودان المشاركة في الحملة العسكرية ضد اليمن مع تلك الدعاية.
وبالتأكيد ليس الدور السعودي هو الوحيد المُتحكّم في تصاعد وهبوط العلاقات بين البلدين، ولكنه دور رئيسي يتحكّم بشكل مباشر في إثارة القضايا الخلافية وإخمادها وفقاً لمصالح المملكة في المنطقة. هناك عوامل أخرى ذات تأثير أقل كاستغلال الحكومة السودانية لحال التراجع السياسي والردّة للدور المصري في المنطقة، وضعف النفوذ نتيجة اشتعال الوضع الداخلي في مصر بعد يناير 2011 لحسم أكبر قدر من الملفات الخلافية مع مصر، وكذلك يمكن اعتبار نهاية حُكم الإخوان على النحو الذي تم منذ يونيو/حزيران للعام 2013 أحد عوامل الردّة في العلاقات المصرية السودانية بسبب اقتراب النظام الحاكِم في شمال السودان فكرياً بجماعة الإخوان المسلمين ودعمهم. وبتأمّل قَفْز الحكومة السودانية من المركب الإيراني ربما في منتصف عام 2015 والانضمام إلى المعسكر السعودي على نحو مفاجئ وعميق للغاية، سنجد أن السعودية أيضاً كان لها اليد العليا كعامل هام ومسيطر في تصاعد وهبوط الوضع بين البلدين.
ووفقاً لدراسة أجراها مركز "البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية" في مصر فإن محدّدات الخلاف بين البلدين تنقسم إلى:
خلافات مُزمِنة: مثل قضايا ترسيم الحدود والعلاقات بين دولة جنوب السودان الوليدة والدولة المصرية، وكذلك استقبال مصر لرموز المعارضة والأنظمة السابقة من السودان.
خلافات طارئة مُستجدّة: والمثال الرئيسي والأضخم هنا هو أزمة حوض النيل بعد إقدام إثيوبيا على إتمام بناء سد النهضة من دون حسم الأمر مع مصر، ما يحمل شكلاً غامضاً للمستقبل بالنسبة إلى مصر، هذا الملف الذي شهد – للمرة الأولى- انضمام السودان لصف دولة أخرى في العمق الإفريقي ضد مصر بشكل مباشر. وهناك مثال آخر على الخلافات الطارئة كدعم حكومة السودان لرموز نظام الإخوان المتّهمين بقضايا إرهاب في مصر.
وقد تم توظيف الأدوات الإعلامية والدعائية في تغذية تلك الخلافات مع كل ضغطة زر كان من شأنها إشعال الوضع بين البلدين، كزيارة الشيخة موزة إلى الخرطوم وحديثها عن أهرامات كوش ومقارنتها بأهرامات الجيزة في مصر من دون أي سياق يحمل إسم مصر وكل تلك الشؤون الضيّقة والتي تحمل رسائل عميقة.
وأغلب الظن أن الدور السعودي هو المتحكّم اليوم في علاقة البلدين، بالإضافة إلى الاستثمار السعودي في سد النهضة الإثيوبي، وكذلك إثارة قضايا شائكة بين مصر والسودان على رأسها قضية الحدود الجنوبية المصرية هي بمثابة توظيف لتلك الملفات لفرض سطوة أكبر للسعودية على ساحل البحر الأحمر، ليصبح – بشكل عملي- ملكية سعودية خاصة تحت السيطرة من باب المندب جنوباً مروراً بالساحل نفسه وصولاً إلى مضيق تيران بعد صفقة ترسيم الحدود السعودية مع مصر، وهنا نحن أمام دور مُركّب ومنظّم للغاية للسعودية لتحقيق الهدف السالف ذكره بشأن البحر الأحمر كممر استراتيجي غاية في الأهمية بالنسبة إلى المنطقة، وذلك بالإضافة إلى رغبة واضحة للسعودية ببسط نفوذ سياسي لها في إفريقيا جنباً إلى جنب مع النفوذ الإسرائيلي سواء في سد النهضة أو الاستثمارات في بلدان مختلفة في القارّة السمراء.
كأدوات في صراع أكبر وأهداف أعمق، ربما لا يوجد ثمة مخرج من الوضع بين السودان ومصر سوى الاتفاق بمعزل عن القوى الاقليمية ولو بشكل مؤقت، وإعادة ترتيب الأوراق وفقاً للعلاقات التاريخية والحتمية التي بموجبها تصبح مصر منفتحة كعادتها على الشريك الجنوبي، ويخرج السودان من الحصار الذي فرضه على نفسه من دون تحقيق مكاسب تُذكَر. نحن هنا نتكلّم عن التخلّي عن سياسة "فرد العضلات" بين البلدين والحرب الإعلامية التي لن يجني أيّ طرف منها أيّ شكل من أشكال المكسب، بل إن قائمة المُستفيدين من كل ذلك مهما طالت فلن تتضمّن إسمَيّ "مِصر والسودان".