اللامركزية السياسية عنوان تفتيت سوريا

يعرف المتابعون لكواليس مؤتمرات جنيف وغيرها من المحافل الدولية التي ترعى المعارضة السورية، أن التغييرات المُقترَحة من قِبَلها لتعديل الدستور السوري، تتضمَّن أشكالاً من اللامركزية السياسية وليس الإدارية فقط، ومن ذلك ربط هذه اللامركزية بحرية الأسواق وتقليص الجيش وتحجيم الدولة ودورها الاجتماعي وتغذية الهويات الفرعية مقابل الهوية الوطنية الجامِعة.

التغييرات المُقترَحة من قبل أميركا لتعديل الدستور السوري، تتضمَّن أشكالاً من اللامركزية السياسية وليس الإدارية فقط

كلما بدا أن سوريا قاب قوسين أو أدنى من الاستقرار، ووقف القتال، وفتح المعابر، وعودة عجلة الاقتصاد والبناء إلى العمل كما كانت قبل استهدافها، تتسابق المتروبولات الأطلسية وأذرعها العثمانية والصهيونية والرجعية العربية، على إعاقة ذلك، وصبّ الزيت على النار، وإشعال الحرائق والتشويش على المحافل والمؤتمرات الدولية الحريصة على إنهاء مُعاناة الشعب السوري، وبعث الحياة الطبيعية في أرجاء سوريا..

وهو ما يؤكّد أن ما شهدته وتشهده سوريا منذ سنوات، لا يتعلّق البتّة بأيّ شكل من أشكال التداعيات الداخلية لأزمة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية محلية، ناهيك عن أن الأزمات المحلية أياً كان حجمها، وأياً كانت طبيعتها لا تُقارَب باستدراج التدخّل الأطلسي والعصابات التكفيرية، وبإعادة الوصاية العثمانية وقرونها المُظلِمة على أيّ شبر من سوريا ولا بالاستقواء بالعدو الصهيوني وغاراته.

إن أشكال التدخّل العسكري الأميركي والعثماني والصهيوني الأخيرة، وتحريض الرجعيات العربية على تعطيل مناخات الحوار في سوتشي، لهو أكبر دليل على استهداف الموقف الوطني السوري وموقعه وتحالفاته الاقليمية والدولية ورفضه الانصياع للإملاءات الأميركية، ومشاريع الإلحاق الصهيونية المفروضة على شكل معاهدات واتفاقيات إذعان هنا وهناك.

هكذا، ارتبط التصعيد العدواني، الخارجي والداخلي ضد سوريا بثلاثة أبعاد، تتضّح أكثر فأكثر كلما تمكّنت سوريا وتحالفاتها من إلحاق الهزيمة تلو الهزيمة بهذا العدوان.

فأما البُعد الأول، فهو البُعد الخاص باستراتيجية البافر ستيت أو العازِل الطائفي المسلح الذي يُقطّع محور المقاومة والممانعة، الذي يمتد من إيران إلى سوريا وحزب الله مروراً بالعراق.

فبعد أن جرّبت الإمبريالية الأميركية والعدو الصهيوني والرجعية النفطية أكثر من قاطِع أو عازِل طائفي، تارة على الحدود السورية اللبنانية، النصرة في القصير والقلمون، وتارة على الحدود السورية – العراقية "داعش"، فإن هزيمة هذه الأدوات والتقاء القوات السورية والعراقية على الحدود، وخاصة بعد معارك دير الزور والميادين والبوكمال، دفع الأميركيين إلى التدخل المباشر وتحويل التنف إلى ثقب أسود، وإعادة إنتاج داعش شمال وشرق دير الزور وفي الصحراء الشرقية، بأسماء جديدة قوامها بعض المرتزقة من العشائر والكرد.

بالمقابل، تُظهِر سوريا وحلفاؤها، إصراراً وصلابة وإرادة حديدية في إنهاء استراتيجية البافرستيت مهما كلّف ذلك من ثمن وشهداء، فتحرير الحدود السورية – العراقية  والحدود السورية – اللبنانية، وفرض السيطرة الوطنية عليها، هو العنوان الأبرز في معركة سوريا واستهدافها.

هذا عن البُعد الأساسي الأول من أبعاد الصراع على سوريا، أما البُعد الثاني، فهو السعي الأميركي – الصهيوني – الرجعي المحموم  لتصفية سوريا كدولة أولاً، وكدولة وطنية ثانياً..

ويُشار هنا، إلى أن هذا البُعد يطال الاقليم كله، انطلاقاً من استراتيجية أميركية – صهيونية، قديمة – جديدة، تدعو إلى تفكيك الدول وتفتيت المجتمعات بذريعة تصفية الشمولية والمركزية السياسية، باعتبارهما من رواسب الاتحاد السوفياتي والدول العميقة في الشرق الأوسط، مثل إيران وتركيا ومصر.

وليس بلا معنى أن تواصل الإدارة الأميركية منع أية محاولات لتطوير النظام السياسي اللبناني، مع اعتباره نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه الشرق كله من أنظمة تقوم على المحاصصات الطائفية، بل أن الاحتلال الأميركي للعراق ابتدأ جرائمه هناك بفرض دستور طائفي يحوِّل العراق من دولة مركزية إلى فدرالية كانتونات.

ولم تتورَّع أوساط ما يُعرَف بالمعارضة السورية من التجاوب مع هذه الصيغة وبحثها مع الخبير الحقوقي اليهودي الأميركي، نوح فيلدمان، الذي كلّفه بريمر لوضع دستور العراق المذكور.

ويعرف المتابعون لكواليس مؤتمرات جنيف وغيرها من المحافل الدولية التي ترعى المعارضة السورية، أن التغييرات المُقترَحة من قِبَلها لتعديل الدستور السوري، تتضمَّن أشكالاً من اللامركزية السياسية وليس الإدارية فقط، ومن ذلك ربط هذه اللامركزية بحرية الأسواق وتقليص الجيش وتحجيم الدولة ودورها الاجتماعي وتغذية الهويات الفرعية مقابل الهوية الوطنية الجامِعة.

والأخطر من كل ذلك، تحويل الوحدات الإدارية إلى برلمانات وحكومات محلية، برسم التوظيف الخارجي في أي وقت.

البُعد الثالث، هو استنزاف سوريا باستمرار لتمرير المشاريع الأميركية الصهيونية لتصفية القضية الفلسطينية، وآخرها مشروع صفقة القرن.

وحيث فشلت السيناريوهات المذكورة حتى الآن، فإن استمرار التدخّل العسكري وتحريك المرتزقة والتكفيريين، هو شكل آخر من الضغط لتمرير هذه السيناريوهات بالتزامُن مع الضغط السياسي عبر المؤتمرات والمحافل الدولية المختلفة.

بهذا المعنى، فإن موقف سوريا من الصراع العربي الصهيوني، ومعركتها ضد اللامركزية السياسية، لا تقل أهمية عن معركة الحدود ضد البافر ستيت المسلح، الطائفي ثم الأميركي وأدواته الجديدة.