الجبهة الشمالية في تقديرات الأمن القومي الإسرائيلي عام 2018
صواريخ المقاومة اللبنانية التي أدخلت حيفا إلى ساحة المعركة في حرب تموز/يوليو 2006، ومن ثم استهداف المقاومة الفلسطينية لبقرتهم المقدّسة "تل أبيب"، كشفت نقاط ضعف بنيوية في منظومة العقيدة العسكرية الصهيونية، أهمها الحاجة الماسة لإدخال مبدأ الدفاع كمركب جديد على تلك العقيدة والتي منذ خمسينات القرن الماضي بُنيت على ثلاثية الردع والإنذار المبكر والحسم. هذا الأمر زاد من تكلفة أية حرب جديدة، وأوجد حالاً من توازن ردع متبادل أقنع المستوى الاستراتيجي في "إسرائيل" ألا ذهاب إلى حرب جديدة على الجبهة الشمالية من دون أن تتم معالجة هذا الخلل البنيوي.
تفجّرت الأزمة السورية في خضمّ البحث الصهيوني عن حلول لأزمة عقيدتها العسكرية وخاصة أن الحلول التقنية، ورغم تحقيقها لبعض النجاحات، لا تصلح كحل نهائي لهذه المعضلة. ولكن استمرار الأزمة السورية واستدامتها وانخراط حزب الله فيها مثّلت "لإسرائيل" طوق نجاة ومنحتها مزيداً من الوقت لإيجاد حلول جذرية لأزمتها العسكرية. ولكن مع اقتراب الأزمة السورية من الانتهاء أثير النقاش من جديد داخل أروقة صنع القرار العسكري حول قدرة "إسرائيل" على اتخاذ قرار الحرب على الجبهة الشمالية التي عرّفها وزير الحرب الصهيوني "ليبرمان"، إنها تشمل كل من سوريا ولبنان معاً ، وانتهاء الحديث عن جبهة لبنانية منفردة التي طالما واجهتها "إسرائيل" باستراتيجية عُرِفت باسم" جزّ العشب". من خلال تكرار الحرب كلما بدا أن قدرات المقاومة القتالية وبخاصة ترسانتها الصاروخية تزداد.
اعتادت مراكز الأبحاث الإسرائيلية مع مطلع كل عام جديد رسم ملامح المشهد الأمني الاستراتيجي الإسرائيلي بما يحمله من تهديدات وفرص أجمعت تقديرات تلك المراكز مع بداية 2018م ، أن التحدّي الأمني الأكبر الذي يُهدّد كيان "إسرائيل" هو جبهة موحّدة في الشمال مكوّنة من حزب الله والدولة السورية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ناهيك عن إمكانية توحيد الجبهات مع فلسطين سواء من خلال انتفاضة شعبية في الضفة الغربية والقدس، أو تصعيد مسلّح من غزّة، وأنه لم يبقَ "لإسرائيل" إلا تعاون يتصاعد مع الدول العربية "المعتدلة" بقيادة السعودية وحلفائها في المنطقة، رغم تشكّكها من قدرة هذا المعسكر "المعتدل" على تحقيق إنجازات عسكرية مهمة، وخاصة أن التجربة اليمنية حاضرة بالمشهد، ناهيك عن انقسام حاد داخل هذا المعسكر بسبب الأزمة القطرية السعودية، ما جعل قطر تتّجه نحو تقوية العلاقات مع إيران، إضافة إلى ذلك التقارب التركي الإيراني يصبّ هو الآخر في إضعاف معسكر الدول العربية المتعاونة مع "إسرائيل".
ساعد التدخّل الروسي في سوريا على تقليص النفوذ الأميركي – الإسرائيلي وخاصة أن الولايات المتحدة حتى الآن لم تصغ استراتيجية خاصة بها لتحقيق أهدافها بعد هزيمة داعش، لذا هي توافق في هذه المرحلة على الخطوات التي تقوم بها روسيا لإنهاء الأزمة السورية سواء في تفاهمات وقف إطلاق النار على الأرض أو حتى في مسار الحل السياسي في سوريا ، وترى في ذلك فرصة سانحة أمام تعزيز التعاون بين إدارة ترامب والروس.
يعترف "أودي ديكل" المدير التنفيذي لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي أن دولته غير قادرة على القضاء على تواجد حزب الله وحلفائه في جنوب سوريا ولا منع انتشار الجيش السوري فيه ، ولذلك يوصي بأعمال عسكرية من قِبَل "إسرائيل" هدفها عرقلة هذا التواجد والحرص على عدم تخطّي حزب الله وإيران الخطوط الحمراء ، مع تأكيده على استخدام منضبط للقوّة العسكرية في هذه المنطقة لكي لا تضطر إسرائيل إلى احتلالها، وهذا ما وصفه "عاموس يدلين" رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق في جيش الاحتلال بالمعضلة الرئيسة لدولة "إسرائيل" وتساءل" كيف تتم تسوية التوتّر بين ضرب تنامي قوّة العدو بهدف تقليص التهديد على "إسرائيل" في المستقبل وبين خطر التدهور إلى حرب بسبب تلك الضربات؟؟!! ".
بالإضافة إلى ذلك، يوصي "ديكل" بمطالبة روسيا مراقبة الوجود الإيراني والتأكّد من عدم نقل السلاح إلى حزب الله، وغيرها من الأمور التي تحفظ أمن إسرائيل، متناسياً أن القيادة الصهيونية سعت دوماً إلى تحقيق استقلاليتها الذاتية في ما يتعلق بمواضيع التهديدات الوجودية حتى عن حليفتها الأساسية الولايات المتحدة الأميركية ، فكيف تعتمد في أمنها القومي على روسيا ؟! إلا إذا كان هذا إشارة إلى انحسار الخيارات الإسرائيلية في التعاطي مع الجبهة الشمالية.
دلالة المشهد الأمني الاستراتيجي لم تترك لدى "إسرائيل" القدرة على الدخول في معركة مفتوحة على الجبهة الشمالية ولا حتى مع حزب الله متى رغبت بذلك !! حيث شكّلت العوامل والتغيّرات الاستراتيجية الجديدة الناتجة من انتهاء الأزمة السورية حاجز ردع حقيقياً أمام الرغبة الإسرائيلية في شنّ الحرب وهذا ما أشارت إليه تقديرات "ديكل" و" يدلين" ضمنياً ، وصرّح به السيّد حسن نصر الله علنياً "إن توازن الرعب هو الذي يمنع اليوم العدو الإسرائيلي من القيام بحرب" وسبب ذلك أن "إسرائيل" باتت غير قادرة على حسم المعركة في موازين البيئة الاستراتيجية الحالية من دون أن تأخذ بالحسبان جدّية تهديدات السيّد نصرالله عندما قال: " إن كلامي عن بداية نهاية إسرائيل ليس كلاماً عاطفياً أو حماسياً ".