إيران وتجربة الثورات المُضادّة الدستورية والبرتقالية

يمكن القول بشكل عام أن الثورات المُضادّة في تاريخ إيران والمنطقة والوطن العربي، مرت بمرحلتين، هما مرحلة ما عُرِف بالثورات الدستورية، ومرحلة ما عُرِف بالثورات البرتقالية.

لا ثورة حقيقية تحظى بدعم الامبرياليين والرجعيين

ما يجري في إيران منذ أيام، لا يختلف كثيراً عما شهدته فنزويلا، وقبلها إيران نفسها قبل سنوات، ولا يعني نزول آلاف أو عشرات الآلاف من المُتظاهرين إلى الشوارع إننا أمام ثورة شعبية، فالتاريخ حافل بالثورات المُضادّة التي اجتاحت الشوارع والمدن، سواء تمكّنت من تحطيم الدول أو ارتدّت على أعقابها.

وقد اهتم الفلاسفة مُبكراً بهذا النمط من الثورات المُضادّة، بين مَن ردّها إلى الدهماء والغوغاء، كما أفلاطون ونيتشه وفيكو وغوستاف لوبون، وبين مَن ردّها إلى الاستحقاقات والأجندة الاقليمية.

وكان لزعيم الثورة الصينية، ماوتسي تونغ مساهمة هامة في التمييز بين الثورات المُضادّة والثورات الحقيقية، فما يميّز أية ثورة هو برنامجها وتحالفاتها وأدواتها، حيث لا ثورة حقيقية تحظى بدعم الامبرياليين والرجعيين وتُقاد من قِبَل قوى تتّخذ من العواصم الامبريالية والرجعية مركزاً  ومنبراً لها.

ويمكن القول بشكل عام أن الثورات المُضادّة في تاريخ إيران والمنطقة والوطن العربي، مرت بمرحلتين، هما مرحلة ما عُرِف بالثورات الدستورية، ومرحلة ما عُرِف بالثورات البرتقالية.

وقد كان القاسم المشترك بين الدستوريين والبرتقاليين، هو وجود القناصل الأجانب في سياقين مختلفين تجمعهما فلسفة واحدة، هي المُتطلّبات الرأسمالية الدولية:

  • في الحال الأولى كانت إيران وتركيا هي موضع وموضوع الثورات الدستورية، ولم يكن العرب قد تحرّروا بعد من ربقة الاحتلال العثماني.

وقد استهدفت هذه الثورات إعادة هيكلة النظام القديم البائِد في البلدين، نظام الشاه آخر ملوك القاجار في إيران، ونظام السلطان عبد الحميد الثاني في تركيا.

وكانت قوى الثورة الدستورية آنذاك خليطاً من البازار والإرهاصات البرجوازية والأوساط العليا من الطبقة الوسطى، وبعض رجال الدين وبعض المُثقفين وقد أكّدت الوثائق والمعطيات التاريخية، أن القوى الدستورية المذكورة، كانت على صلة بالقناصل الأجانب، وخاصة الإنكليز والفرنسيين، فيما كانت المراكز الدولية الأخرى، مثل ألمانيا وروسيا القيصرية أكثر تحفّظاً على هذه الثورات ودور القناصل فيها.

وعلى خلاف الحماس الليبرالي عند العديد من الباحثين والسياسيين دفاعاً عن هذه الثورات، فقد كانت في الواقع جزءاً من استراتيجية الاستعمار والرأسماليات الأوروبية لاستبدال البنية الإقطاعية في البلدان المُستهدَفة، ببنى رأسمالية تابعة للمتروبولات في أوروبا.

ولم تسفر هذه الثورات عن أنظمة ديمقراطية بل عن أشكال جديدة من الاستبداد الآسيوي المُستحدَث، فانتهى نظام الشاه وعائلة القاجار إلى سلالة جديدة من سلالة جنرال سابق في الجيش الروسي القيصري السابق، كما انتهي نظام عبد الحميد إلى زجّ تركيا في الحرب العالمية الأولى، ثم إلى حُكم عسكري بديكور ديمقراطي.

  • في الحال الثانية، راحت الثورات البرتقالية تمدّ ظلالها جنوباً وشرقاً بما في ذلك ما عُرِف بالربيع العربي، وذلك في سياق الاستحقاقات الجديدة للتحوّلات في النظام المتروبولي الاستعماري العالمي، وليس استجابة لقوى وتشكيلات مدنية جديدة، لا على غرار الرأسماليات نفسها ولا وفق خيارات ديمقراطية.

لقد ولدت الثورات البرتقالية كثورات مُضادّة في سياق لعبة الخرائط الجديدة، حيث تحتل سياسات الجيوبوليتيك هنا مكان الطبقات وميكانيزماتها، وكانت الكانتونات الطائفية المتوقّعة والمُبرمجَة جزءاً أساسياً من هذه اللعبة.

  • ويلاحظ في الحالين: الثورات الدستورية والثورات البرتقالية، أن المُثقّفين توزّعوا على عدّة تيارات: تيار انخرط فيها على خلفية علاقات مع القناصل والدوائر الاستخبارية، وتيار لم يميّز بين الأحلام والاستغفال، وتيار انزوى بين خانِع وقلِق ويائِس، وتيار راديكالي ثوري يغالب الدهماء والنخب المأجورة.

كما يلاحظ في ما يخصّ أوساط ثقافية أوروبية وأميركية، انخراطها وتعاونها مع أقلام الاستخبارات في بلدانها، فمقابل أوساط واسعة من المستشرقين بل ومن الأدباء والفنانين التشكيليين الذين عملوا مع هذه الأقلام لترويج الثورات الدستورية، كانت مراكز الدراسات الخاصة وصناديق التمويل المُرتبطة بها هي التي تُدير مُثقّفي الثورات البرتقالية، أمثال المجتمع المفتوح، ونيد، وأكاديمية التغيير، والأوتبور، وفورد فاونديشن، وبيت الحرية، وفافو، والمراكز الألمانية (أديناور، ونؤمان وغيرهما).

كما كان ملاحظاً الدور البارز للنشطاء اليهود فيها، من جورج سوروس وبرنار لويس إلى بيتر أكرمان وجين شارب وبرنار ليفي .. إلخ

  • بالإضافة إلى الإطار العام السابق، فإن الثورات المُضادّة تأخذ أهمية مُضاعَفة في البلدان التي تروق سياساتها للمراكز الامبريالية وأدواتها الاقليمية، ومنها إيران وفنزويلا وسوريا وكوبا وكوريا الديمقراطية وبوليفيا.

ولنا أن نقول بخصوص إيران التي تتميّز باستقلال قرارها السياسي المُحصّن بخيارات اقتصادية ضدّ التبعية، إنها مُستهدَفة منذ الثورة الشعبية التي أطاحت بنظام الشاه وحرمت الامبرياليين من أكبر شرطي لهم في المنطقة.

كما ارتبطت النشاطات الامبريالية المُعادية لهذا البلد، بتطوّرات الصراع الاقليمي ودعم طهران لسوريا والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وتقدّم إيران في المشهد الاقليمي كقوة صاعدة، مقابل اضطراب اللاعب التركي وتورّطه في الملفات الأطلسية ومنها التورّط في سوريا، ومقابل بداية العد العكسي للاعب الأطلسي الآخر، ممثلاً بالكيان الصهيوني.

ومنذ تشخيص معسكر المُمانعة والمقاومة والمثلّث الامبريالي-الصهيوني-الرجعي ينتقل في معاركه بين سوريا وإيران وحزب الله والمقاومة في غزّة، ويختبر استراتيجيته لكسر هذه الحلقة أو تلك من حلقات هذا المعسكر.

من إخراج القوات السورية من لبنان إلى عدوان تموز 2006 على حزب الله إلى الثورة البرتقالية المُضادّة في إيران، إلى العدوان الخارجي والداخلي على سوريا إلى تهديد حزب الله مُجدّداً إلى العودة إلى الملف الإيراني، وهكذا ...