أردوغان يتمدّد في إفريقيا ويفخخ البحر الأحمر.. هل يستهدف مصر؟
أمام مدخل قصر قرطاج، وقف الرئيس التركي يصافح الرئيس التونسي بيد ويلوّح للمصوِّرين بأخرى رافعاً شعار "رابعة". لم تمر هذه الحركة من دون أن تُسيل حبراً كثيراً بين رافض لها ومبرّر لصاحبها.
لا يتعلق الأمر بالإشارة، التي يرى فيها كثيرون إحالة على أحداث ساحة رابعة العدوية في القاهرة قبل سنوات والنادي الإخواني الذي ينتمي إليه، ويرى فيها آخرون إشارة إلى مبادئ الدولة التركية الأربعة كما قال أردوغان نفسه في أحد خطاباته عندما أكّد أنها تشير إلى تلك المبادئ؛ علم واحد وأمّة واحدة وحكومة واحدة وبلد واحد.. بل إن الأمر يتعلق بما وراء الإشارة ذاتها.
على مدى أربعة قرون حكم الأتراك العرب باسم الدّين، فتجمّد لديهم كل شيء ولم يحققوا شيئاً مهماً لا حضارياً ولا علمياً ولا فكرياً. كان ذلك متوقّعاً. فالأتراك لا يملكون تاريخاً حضاريّاً، وهم بالأساس قبائل تتريّة وقرقيزية وسلجوقية وخزرية بدوية غزت منطقة الأناضول واستوطنت فيها، قبل أن تستغل واقع الضعف العربي لتتمدّد فيه. وانتهى الأمر إلى تسليم ما كان تحت سلطتها من ولايات عربية إلى قوى الاستعمار.
يُهمل المغرَمون بالتاريخ العثماني، تناقضات تلك الإمبراطورية، على الرغم من إيجابياتها التي لا ينكرها أحد، ويتناسون أنها لم تنجد العرب في الأندلس في عام 1492، حين كانت الدولة العثمانية في أوج قوّتها بعد استيلاء بني عثمان على القسطنطينية/ إسطنبول في سنة 1453، بذريعة الخطر الصفوي القائم في الشرق. وعندما احتلت بريطانيا الجزيرة العربية وعدن في سنة 1839 لم تحرّك إسطنبول ساكناً. وبالطريقة ذاتها، استولت فرنسا على تونس في 1878، بعدما اجتاز الجيش الفرنسي الحدود الجزائرية إليها ورفضت حتى إمداد المقاومين بالسلاح كما تؤكّد رسائل "القائد"، وهذا منصب إداري ضمن "الإيالة التونسية" آنذاك، علي بن خليفة إلى الباب العالي. وفي 1869، حُفرت قناة السويس وكأنّ تركيا غير موجودة. وفي 1882 هاجم الفرنسيون والبريطانيون مدينة الاسكندرية من البحر، ثم احتلت القوات البريطانية مصر والسودان في السنة نفسها، ولم يفعل العثمانيون شيئاً، بعد أن انتكست الإمبراطورية في شيخوخة أوصلتها إلى حال "الرجل المريض" في النصف الأول من القرن التاسع عشر. لا يريد العرب أن يتكرّر ذلك التاريخ، رغم وجود تيار من "الإسلام السياسي" يحمل حنيناً إلى تلك المرحلة.
يحلم أردوغان بقيادة جزء واسع من العالم الإسلامي انطلاقاً من تركيا. والوضع الذي تمر به مصر والسعودية، أبرز منافسين له على تلك الزعامة، مناسب بشكل كبير لما يخطّط له الرئيس التركي.
لكن الحلم التركي يحتاج إلى اختراق الشام والخليج والتمدّد نحو المغرب العربي، واقتحام الجوار الأفريقي. فبعد أن دشّن أردوغان قاعدته العسكرية في قطر بجوار المملكة السعودية، اتجه نحو السودان، الذى يمثل العمق الإستراتيجى المصرى، فى أول زيارة لرئيس تركي إلى السودان. زار بلدة سواكن على البحر الأحمر شمال شرق السودان على بُعد قرابة 642 كم عن العاصمة الخرطوم، والتى كانت يوماً ميناء استراتيجياً قبل أن يتّخذ البريطانيون بورسودان بديلاً عنه، ووقّع اتفاقاً مع الرئيس البشير يقضي بالحصول على حق التصرّف في الجزيرة، ووقّع اتّفاقات شراكة اقتصادية.
وتحدّثت تقارير عن وجود ملحق سرّي للاتفاق، يتعلّق بالجوانب السياسية والصناعات العسكرية بين البلدين، وقد تناول محلّلون أتراك الأهمية الاستراتيجية والعسكرية لجزيرة سواكن والنابعة من أهمية البحر الأحمر باعتباره ممراً مائياً شديد الأهمية لكل القوى الدولية.
تعود الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر إلى موقعه الجغرافي المؤثّر في العلاقات الإقليمية والدولية بشكل أساسي. فهذا البحر يتوسّط قارات العالم القديم الثلاث آسيا وأفريقيا وأوروبا. وهو يشكِّل، فوق ذلك، نقطة التقاء استراتيجية بين البحر الأبيض المتوسّط والمحيط الهندي.
يدرك أردغان الأهمية الاستثنائية للبحر الأحمر، ويفهم مركزيّة مصر وموقعها في قلب العالم العربي وثقلها الاستراتيجي إذا ما استطاعت يوماً أن تتجاوز محنتها وتنهض. ولذلك يبدو استمرار المعاناة المصرية، في هذه المرحلة، شيئاً مهماً للأتراك من أجل التمدُّد الآمن. فالوصول إلى القاهرة يعني وضع اليد على العالم العربي، أمام الأزمات التي يعاني منها كل من العراق وسوريا.
وفي المقابل يمكن أن يكون الانفتاح السوداني على تركيا ردّاً على الإهمال العربى، واعتراضاً على ترسيم الحدود المصرية السعودية الذى وضع حلايب وشلاتين ضمن الحدود المصرية حيث لم يهتم أحد باسترضاء السودان أو حتى أخذ رأيه.
استمرت العلاقات المصرية السودانية متوتّرة ولم تخفّف الزيارات المتعدّدة للرئيس البشير إلى القاهرة من ذلك ، بسبب بعض الهاربين من جماعة الإخوان الذين لجأوا إلى السودان بعد خلع الرئيس السابق محمّد مرسى.. وبسبب موقف السودان من سد النهضة الإثيوبى.
استغل أردغان ذلك. فهو يدرك أهمية الجوار الليبي لمصر واستطاع أن يؤمِّن لبلاده موطىء قدم له في السودان. وهو لذلك زار تشاد الجارة الجنوبية وتونس الجارة الشمالية التي تحتضن مفاوضات بين الأطرف الليبية المتصارعة ، والتي تبقى المدخل الرئيسي إلى ليبيا التي لا تزال خاضعة لصراع مرير بين تيارين أساسيين.
غير أنه في المقابل، يمكن للمراقب أن يلاحظ بسهولة تشكّل محور جديد واسع يتكوّن من روسيا وإيران وتركيا وسوريا والسودان والعراق وعُمان ولبنان وقطر.. في مقابل الحلف الأميركي الإسرائيلي العربي الذي تمثل السعودية والإمارات ومصر جزءاً منه. ولا شك أن العلاقات بين أعضاء تلك المحاور ليست دائماً في أفضل حالاتها بل قد تكون سيئة كما هي حال العلاقات التركية السورية. ووجود أردغان في السودان وتونس يقوّي الرغبة في توسيع المحور الذي ينتمي إليه لترسيخ الدخول السوداني بعد تورّطه في اليمن من دون أن يتلقّى "الرز" الموعود، واستقطاب تونس التي لا تزال تتمسك بموقع المحايد رغم التوتّر في علاقاتها مع بعض دول التحالف الأميركي، كما هي الحال مع الإمارات العربية المتحدة.
وبحسب هذه الرؤية، فإن تحرّكات أردغان في إفريقيا والجوار المصري لا تخدم فقط مصالح تركيا، بل تخدم أيضاً مصالح المحور الذي أصبحت تنتمي إليه منذ أن قرّر أردغان التوجّه نحو التحالف مع المحور الروسي الإيراني بدل تحالفه القديم مع الغربيين رغم أن بلاده لا تزال عضواً في حلف الناتو.