كيف نمنع صدور وعد بلفور جديد ؟!

بعد كثرة الاحتفالات العربية التي بلا استراتيجية للمواجهة، لمئة عام على الوعد المشؤوم تقف الأمة العربية والإسلامية اليوم أمام لحظة تاريخية فاصلة، فها هو قرن من الزمان يمر على التصريح "الوعد" الذي أسس لواحدة من أعتى القوى الاستعمارية عبر التاريخ، في بلادنا، استعمار مختلف، فهو لا يقتل أو يسجن البشر فحسب، بل يقتلعهم من أرضهم ويحل محلهم في نهج عنصري مقيت قلّ نظيره عبر تجارب التاريخ القديم والمعاصر؛ بل والأشد قسوة، هو تلك المباركة والحماية والدعم اللامحدود من القوى الكبرى التي هيمنت على العالم طيلة القرن الذي مضى؛ والمؤلم أيضاً هو أن يقوم فريقاً من أصحاب الحق (عرباً وفلسطينيين) بإقرار المغتصب المحتل على عملية احتلاله، وفي إدانة من يقاومون من أبناء البلد المحتل الذي هو هنا فلسطين في مفارقة تاريخية مخزية لم يعرفها التاريخ الإنساني من قبل.

الاحتفالات التي تأتي بدون استراتيجية جادة للمقاومة غير مفيدة

إن وعد بلفور بعد 100 عام على إصداره، والذي كثرت احتفالاتنا به وبذكراه وتنوعت في أغلب البلاد العربية والإسلامية ولكن بدون استراتيجية حقيقية للتحرير.. هذا (الوعد الجريمة) نحسبه لايزال قائماً كجريمة قانونية وإنسانية، وسياسية لا تسقط بالتقادم جريمة أسست لدولة إرهاب، لاتزال تمارس إرهابها ليس على الشعب الفلسطيني فحسب بل على جيرانه من العرب والمسلمين، فلم تسلم منها مصر وسوريا والأردن ولبنان، ولم تسلم منها باقي الدول العربية والإسلامية في مؤامرات قتل وإرهاب عن طريق وكلاء وأجهزة تجسس ووسائل تخريب دولية متعددة، ولكن بالمقابل؛ ورغم الإرهاب الكبير الذي صاحب هذا الوعد إلا أن المقاومة ضده لاتزال مستمرة، ولاتزال تبدع أشكالاً وآليات جديدة في مواجهتها لهذه الغزوة الصهيونية.

إن وعد بلفور كما بات يعلم القاصي والداني هو عبارة عن (100 كلمة) فقط، مئة كلمة غيرّت في (مئة عام) وجه التاريخ في هذه المنطقة، إن هذا الوعد كان عبارة عن رسالة موجهة من وزير خارجية بريطانية آرثر جيمس بلفور إلى اللورد الصهيوني ليونيل ولتر روتشيلد، هذا نصها: " يسرني جداً أن أنقل إليكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي المتعاطف مع أماني اليهود والصهاينة، وقد عُرض على الوزارة وأقرته. إن حكومة صاحب الجلالة ترى بعين العطف تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتي بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو الحقوق والوضع السياسي التي يتمتع بها يهود في أي بلد آخر، وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح".
إن وعد بلفور كما هو واضح، هو عبارة عن بيان من قبل بريطانيا يؤكد مؤامرتها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
يمكننا الآن الانتهاء إلى نتائج محددة حول هذا الوعد تاريخياً وملابسات إصداره وهي نتائج توصل إليها عشرات الباحثين العرب والفلسطينيين، ولعل الدراسة المهمة للأستاذ أحمد غنيم القيادي في حركة فتح والمعنونة بـ(وعد بلفور بين عصبة الأمم وصك الانتداب) تمثل بخلاصاتها الرصينة أفضل ما قرأت في هذا الصدد والتي تنتهى إلى:
1 - نسبة اليهود في فلسطين عشية مؤتمر باريس (عام1919) لاقتسام غنائم الحرب العالمية الأولى لم تتجاوز 8% يعتبر معظمهم مقيمين غير شرعيين في فلسطين لأنهم دخلوا إليها بطريقة غير شرعية، و"وعد بلفور" المشؤوم ذو الـ 100 كلمة فقط لحظة صدوره عام 1917 يعتبر "تصريحاً فردياً" من شخص ليس ذي صلة، وليس وثيقة دولية أبداً.
2 - قانونياً فإنّ رضى وقبول الشعوب الواقعة تحت الانتداب يعتبر شرطاً أساساً من شروط نظام الانتداب، بل إن اختيار دولة الانتداب حق لتلك الشعوب ما لم يحصل مع الانتداب البريطاني على فلسطين الذي ضمّن "الوعد" في "صك الانتداب" على فلسطين.
3 - السيادة بقيت كامنة في الشعب الفلسطيني الذي كان جزءاً من الشعب العربي الذي خضعت أقاليمه للدولة العثمانية من العام 1516 إلى تاريخ 1917.
4 - رغم التناقضات التي احتواها ميثاق عصبة الأمم (التي ورثتها هيئة الأمم المتحدة)، إلا أنه أقرّ مَبدأ سيادة الدولة على أقاليمها وعدم جواز ضم الدول المنتصرة في الحرب للأقاليم التي احتلتها، ونصّ على حق الشعوب في تقرير مصيره، إن مصادقة الحكومة البريطانية على هذه المبادئ يتنافى مع إطلاقها لوعد بلفور ومع مكونات وبنود صكّ الانتداب ذاته.
5 - احتفظ الأتراك (في معاهدة سيفر 1920) بحقّ السيادة على فلسطين للشعب الفلسطيني حصراً، الأمر الذي يعني إبطال القيمة القانونية لما ورد في ميثاق عصبة الأمم ومقررات مؤتمر فرساي ومعاهدة سان ريمو- سيفر بوعد بلفور وصك الانتداب.
6 - إن ما تقدم يضع بريطانيا تحت طائلة المسؤولية الدولية، ووفقا للقاعدة القانونية التي هي من مبادئ القانون الدولي العامة والمعروفة بالمسؤولية التقصيرية التي تلزم كل من تسبب بفعله في إحداث ضرر للغير ملزماً بإصلاح هذا الضرر، بما يعني مسؤولية بريطانيا وفقاً للقانون الدولي في العمل على تجسيد الدولة الفلسطينية والاعتراف بها.

ما سبق كان هو التاريخ، وخلاصاته.. الآن نحن في العام 2017، ومنذ إطلاق الوعد (2/11/1917) والشعب الفلسطيني؛ والعربي يقاوم (دولة الوعد) التي جمعت في نشأتها وسيرورتها كل خصائص العنصرية والاحتلال الدامي والإرهاب الممنهج، لقد أكدت رحلة المئة عام من الاحتلال الصهيوني لفلسطين أنّ (الدم) سينتصر حتماً على (السيف)، مهما علا الأخير وتجبّر، وما أقسى ما عاش الدم الفلسطيني والعربي من حروب وإرهاب وصلت إلى تسعة حروب متتالية داخل فلسطين على الجبهات العربية المواجهة منذ حرب العام 1948 وصولاً إلى حروب الانتفاضات الفلسطينية والعدوان على غزة وحرب لبنان الأخيرة (2006)، لقد كان العدو الصهيوني يعوّل دائماً على كسر إرادة الشعب الفلسطيني والعربي باعتبارها هي الأهم في كل هذا الصراع ولكنه فشل، ورغم التضحيات الكبيرة، إلا أن روح المقاومة وإرادتها بقيت دائماً خلال المئة عام الماضية حية ومتقدة، سرعان ما تشتعل مجدداً كل حين، وعندما يتوهم العدو أنها قد كسرت أو هزمت، سرعان ما يجدها وقد استيقظت مجدداً في جدلية مبهرة من رحلة الدم الذي هزم السيف.
وإذا كان من توصية نقدمها في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة ونحن نستقبل بداية قرن جديد من المواجهة مع العدو الصهيوني منذ وعد بلفور المشؤوم (2017)، فهي حتمية التمسك بخيار المقاومة بمعناها الشامل (السياسي – الاقتصادي – الثقافي – العسكري)، وإغلاق ملف التسويات والمفاوضات البائس الذي لم يوصلنا إلى شيء، بل أثّر سلباً على حقوقنا العربية في فلسطين، وأحدث اختراقاً في لحمة الشعب الفلسطيني والعربي، اختراق بات يحتاج إلى علاج وترميم سياسي واسع المدى، خاصة بعد اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو وما شابهها من انتكاسات سياسية أثرت سلباً على الحقوق العربية في فلسطين.

إن المطلوب أيضاً في خيار المقاومة، أن نواجه التطبيع الثقافي والسياسي الناتج عن تلك الاتفاقات السلامية!!؛ وذلك باعتباره خطراً يهدد روحية المقاومة، داخل شعوب الأمة التي هي السند الأكبر للشعب الفلسطيني في جهاده، ويوازي ذلك الدعم الواسع لقوى المقاومة الفلسطينية والعربية وفي مقدمتهم حزب الله والذي يتعرض هذه الأيام لعمليات تشويه ظالم من قبل أنظمة متواطئة تاريخياً مع واشنطن وتل أبيب ضد الحقوق الفلسطينية والعربية، إن الأمل في انتصار (الدم) العربي على (السيف) الصهيوني في فلسطين، أمل سيتحقق حتماً فتلك من سنن التاريخ وحقائق الجغرافيا وبديهيات الاستراتيجية، خاصة عندما يكون الصراع بين (الحق) و(الباطل) وهو ما تؤكده قصة فلسطين منذ هذا الوعد (بلفور) فقط الانتصار يحتاج إلى إرادة وتوظيف جيدين للقدرات وصبر وصمود وروحية للجهاد؛ وهو ما نحسبه متوفراً في قوى المقاومة داخل فلسطين وخارجها رغم الصعوبات والتحديات ونحسب أيضاً أن قانون انتصار الدم على السيف، سيتحقق، في سنوات قليلة ولن نحتاج إلى مئة عام أخرى من الإرهاب والتدمير الصهيوني. أو الاحتفالات غير المفيدة والتي بدون استراتيجية جادة للمقاومة، كما جرى للأسف عربياً وإسلامياً خلال شهر ( تشرين الثاني/ نوفمبر 2017) بمناسبة الذكرى المئوية لهذا الوعد المشؤوم.. فلنفعل إذن شيئاً .. وكفانا (كلاماً) واحتفالات !! نأمل ذلك !!.