النيل نجاشي
وسط انشغال العالم بتفسير التعبير الذي سكّه رئيس الوزراء اللبناني الذي خرج ولم يعد، السيّد سعد الحريري، فرَّج الله كربه: الصدمة الإيجابية. تسلّل إلينا في مصر خبر هامِس يحمل إلينا صدمة كبرى، ألا وهو فشل المفاوضات المصرية الأثيوبية بشأن بناء سدّ النهضة.
انزلق الخبر خافتاً، أو متخفّتاً، إن جاز التعبير، ما بين صخب الحوقلات التي أحاطت بلقاء سعد الحريري، وبين تسريب لفيديو قديم يعود تاريخه إلى يناير 2017، للمطربة المصرية شيرين عبد الوهاب وهي تمزح قائلة في إحدى الحفلات بلبنان لواحدة من المُعجبات التي طلبت منها أن تغنّي ما شربتش من نيلها: النيل بقى فيه بلهارسيا، اشربي إيفيان. (وهي أغلى أنواع المياه المعدنية قاطبة، تُباع في مصر بـ 32 جنيهاً مصرياً، أي أنها أغلى من الأرز والمكرونة والسكّر والقمح والسلع الأساسية). وبغضّ الطرف عن أن المطربة قالت معلومة علمية حقيقية، وبصرف النظر عن أن رئيس الدولة بالفعل يشرب هذا النوع من المياه المعدنية، فإن هذه النكتة السمجة التي ألقتها المطربة كانت منذ ما يقرب من عام مضى. إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد، وتم "التحفيل" – بالتعبير المصري الذي اشتق من "حفل" – على المطربة، التي ستُحال للمحاكمة، وسيتم وقفها عن العمل، كما أنها مُنِعت من إقامة حفلات غنائية في مصر، لأنها أساءت لمصر.
تقدّمت المطربة باعتذار، قالت فيه ضمناً إن الحفل قديم، وإن هناك من يرغب فيه لفت الانتباه عما هو مهم. وهذا ما أجّج الغضب، ورفع من وتيرة التهديد والوعيد للمطربة، إذ أنها عزفت على وتر حساس، حيث أن كل هذه "الحفلة" قد أقيمت لينشغل الناس عما حدث، وعن فشل القيادة المصرية في إنقاذ ما يزيد عن 104 ملايين نسمة من عطش مُحقّق في غضون خمس سنوات.
الحقيقة أن سدّ النهضة الذي ترغب أثيوبيا في بنائه، هو مشروع قديم، حاولت مراراً وتكراراً أن تمضي فيه، لكن مصر كانت تنجح في إثنائها عن عزمها، تارة بالإغراءات والمصالح، وتارة بالتهديد العسكري، كان هذا حتى مقتل الرئيس الراحل محمّد أنور السادات. عقب تولّي مبارك الحُكم، لسبب مجهول تعمّد أن يتجاهل هذا الملف، بل إنه تعامل بتكبّر وفوقية مع دول حوض النيل، التي نجحت أثيوبيا في تجنيدها لصالحها في غياب الدور المصري، الذي اكتفى بالتعامل مع دول حوض النيل بوصفها "برابرة" ولم يأل جهداً في إبداء الاحتقار والتكبّر حيالها.
في أثناء تولّي محمّد مرسي الحُكم، فشل هو أيضاً في إيجاد حل، كما خرج علينا ليقنعنا أن سدّ النهضة في مصلحة مصر. ثم أخيراً، جاء السيسي.
حقيقة أنني لم أتوقّع، بعد كل هذه السنوات من التجاهُل وتراكُم الفشل، أن ينجح السيسي في إيجاد حل لهذه المُعضلة، فقد سبق السيف العذل، كما أن الرئيس السيسي لم ينجح في أية مهمة سهلة، حتى يتأتّى له أن ينجح في هذه المهمة المستحيلة. لكن المشكلة تكمن في أن الرئيس السيسي منذ تولّيه الحُكم دخل على المصريين بمشهد: عشرة يكتفوني.. بعون الله أفك نفسي لوحدي.. حتشوفوا العَجَب.. حتى الجن حتتعجّب.
ولو أنه فطن إلى الوضع المُزري الذي وصلنا إليه، لكان أكرم له أن يُصارح المصريين كما صارح تشرشل الإنكليز في مقولته الشهيرة: لا أملك لكم سوى الدم والدموع. وطلب معونتهم.
إلا أن الرئيس السيسي لم يطلب معونة أحد، بل إنه لم يقبل معونة أحد، وأخذ يردّد على مسامعنا: اسمعوني أنا بس.. أنا مش عايز كلام في الموضوع ده تاني.. أنتم مش فاهمين.. أنا فاهم.
وعشرة يكتّفوني وحتشوفوا العجب.
وقد رأينا العجب بالفعل، وأغلب الظن أن الجنّ قد تعجّب معنا. وها نحن بانتظار عطش لم تواجهه مصر منذ الشدّة المُستنصرية، لكن، القضية الأهم هي قضية المطربة شيرين ونُكاتها السخيفة