"موت بائع جوّال" إسقاطات والألم واحد

تمتلك مسرحية "موت بائع جوّال" قوة دراماتيكية غير عادية على احتواء البؤس الإنساني مع نكهة فلسفية في بعض حواراتها التي تبحث في الوجود الإنساني، ويمكن تصنيفها بالمسرحية " الروحية" او متعدّدة الأبعاد الثقافية وليس السيكولوجية، فالإنسان والمواقف الإنسانية يقعا في قلب بنيان المسرحية.

ما زالت مسرحية "موت بائع جوّال" للكاتب الأميركي الراحل (2005) آرثر ميللر، تُعرض  على مسارح في الولايات المتحدة الأميركية. تسنّت لي مشاهدتها في بوسطن منذ ما يقرب الشهر. كنت قرأت هذه المسرحية السوداوية بالعربية، ما أعانني على متابعتها بالإنكليزية على خشبة المسرح الأميركي. وسواء فاتني فَهْم بعض العبارات، أو خانني فَهْم سواها، فإن الانتباه والإحاطة بجوهر المسرحية وروحها، أتاحا لي متابعة سلسة، سيما أن المسرحية تدور في حيّز مكاني واحد لا يتغيّر طوال العرض: رجل وزوجته وأبناء، كذلك صديق البائع  إلى شخصية هامشية إضافية، كل هؤلاء او هذه الشخصيات تحتشد في غرفة صغيرة، وتقتصر مشاركاتها على تبادل الحوارات العدمية بكل ما في الكلمة من معنى. السدود التي تحول بين الشخصيات وبين حب بعضها البعض ذات منشأ قديم وجروح قديمة لذلك تلعب الحوارات لعبة "الفلاش باك" فتعود بالزمن إلى منشأ العلل في العلاقات، كما تلفت تلك الحال من الجفاء المستعصي بين الرجل وزوجته الى درجة عدم النظر إليها وجهاً لوجه طوال المسرحية، كذلك رأيت إلى أكثر من الجفاء بين البائع وصديقه وبينه وبين إبنه الكبير.

تتبّعت ما يمكن ل "موت بائع جوّال" أن تقدّمهُ لي، بشكلها التقليدي والفانتازي في آن، والقائمة بالمُطلق على تعاسة شخصية لبائع تَعِس، ذات مضمون قلق من أخطاء ارتُكبت في السابق، وتتصاعد إمكانياتها الفجائعية مع تزايد وتيرة الحوارات لتنسحب هذه بقلقها على المتابع في الصالة.

مسرحية بالمحصّلة، تمتلك قوة دراماتيكية غير عادية على احتواء البؤس الإنساني مع نكهة فلسفية في بعض حواراتها التي تبحث في الوجود الإنساني، ويمكن تصنيفها بالمسرحية "الروحية" أو متعدّدة الأبعاد الثقافية وليس السيكولوجية، فالإنسان والمواقف الإنسانية يقعا في قلب بنيان المسرحية.

لن أتكلّم أكثر عن مسرحية آرثر ميللر التي عاشت حتى اللحظة على مسارح برودواي وسواها، فالنقّاد أكثر عِلماً ودقّة منيّ في هذا المجال. أحببت هنا فحسب، نقل انطباعي عمّا أرختهُ المسرحية هذه من تداعيات، وتشابهات مع حالنا اللبنانية.

ثمة تلك التعرية والتجريد الجذريان، الفاضحان، بحيث يستطيعا أن يُجسّدا تعقّد الوجود (الحياة) في العالم الحديث. تخيّل وطناً يستحيلُ غرفة صغيرة على غِرار الحيّز المكاني الضيّق للمسرحية، يحتوي تعقّد العلاقات بين قاطنيه، مع تلك النبرة اليائِسة على لسان مجتمع بأسره، كل ما يُطالب به الحق في الوجود بكرامة، والمصالحة مع ناس البلد وحاكميه، كما تخليص المواطن من "حمولة" مصاعب ليس من واجبه حملها.

الحيّز المكاني الضيّق في المسرحية تناهى إليّ، كحيّز لبناني بامتياز، كذلك شخصيات المسرحية بسوء الفهم الحاصل لها تُشبهنا، إلى الحوارات والتفاصيل التي قدّمت لي نفسها، وكأنها تطلب منيّ تعاطفاً كثيفاً وعميقاً معها.

لم أستطع لحظة، خلال متابعتي المسرحية، الإنفصال عن الواقع الذي نعيشه عندنا. صحيح أن التطابق في الظاهر ليس عظيماً، ما بين هموم شخصيات المسرحية وهمومنا كلبنانيين، سوى أنك في أيّ عمل فنيّ تراه، ويكون يحملُ ظلماً يلحق بالبشر، إن في الكتب أو في السينما أو في الموسيقى أو النحت أو الغناء، أو في الأعمال المسرحية أو في الحياة عامّة، سوف يُرخي الظلم هذا ذلك النوع من التشابك، ويُنشّط ذاكرتك المُنهكة، ويرميك مُرغماً في الأسى الذي نعيش، في بلد خال من مرجعيات أخلاقية وعادلة، تُعينك على الحياة بدل أن تُعين قسوة الحياة عليك.

إن الانتباه إلى تفصيل ما، يجمعك مع ما تُشاهد، يجعل هذا التفصيل يقفز إلى الحياة. يكفي أن اُغمض عينيّ واستمعُ إلى الحوار الدائر، ثم أعود إلى فتحهما لأعرف البؤس الذي نتردّى فيه، بؤس حياة لبنانية تظهرّت جرّاء هذا التفصيل المُباغت.

لم أحاول قط، نقل إحساسي لصديقتي الأميركية التي تصحبني، ولا محادثتها بما أشعر. خلتُ أن هذا التداعي الشعوري هو هالة سحرية تخصنّي وحدي، وتخّص بلدي فلم أرغب في افتعال شروحات مرتبكة معها بشأنه، خشية أن يكون تلقيّها سيّئاً، مُشوّشاً ومزيّفاً، سيما أن بلدها على علاقة وثيقة بسبب أوجاعنا ومصائبنا التي نُعاني، وخشية أن تعتبر إسقاطاتي هذه مُبالغ بها فتأنف التعاطف معي،  وتُغادرني وتكفّ عن صداقتي إذ تُفكّر كيف أُسقطُ أحزان شخصيات المسرحية الصغيرة هذه على وطن بأكملهُ؟

يحدثُ دائماً، أن تبدو لي تفاصيل في الكتب، في المسرحيات والسينما، تفاصيل موجعة موجودة  في كائنات حياتي: يدٌ متسوّلة مثلاً، شباب لا يجدون فُرَص عمل، وطن مُهدَّد بوجوده من قِبَل المستعمر، مُهدّد بأمنه وسلامه ومستقبل أبنائه . عموماً يُسيطر عليّ ذلك المناخ المُبهَم، والتفاصيل التي تُقدِّم لي نفسها وكأنها تطلبُ منيّ تعاطفاً كثيفاً وعميقاً.

أبدأ بمراقبة هذه التفاصيل. تبدأ تسكنني. وتبدأ نظرتي بتتبّعها، ولا أفلح بعدها بالانفصال أو التراجُع. تفاصيل الأعمال الفنية هي في الجوهر معناها. أبدأ أيضاً بترتيب تسلسل ما للأفضليات. أختار هذا التفصيل أو ذاك بدرجة أكبر من باقي التفاصيل، وغالباً ما أنتبه إلى أن تذوّقي إلى السلبيات يأتي بالعاطفة المُتسامِحة الرحبة عينها التي أتذوّق بها الإيجابيات ، وآخذها جميعها بكامل سعتي الروحية.

أيّة زيارة لأميركا سوف تُشعرك بأن لك مطلباً ما عندها، حتى لو بذلت لك كل جمالها، وتعاطفها وتفوّقها في الميادين كافة. أميركا وإن تبدو مُبهرة، تشعرك كزائر من العالم الثالث أو العاشر أن شيئاً من جمالها وإبهارها قد سُرِق منك، وأن هذا التفوّق قد حازته على حسابك وحساب وطنك بشكل أو بآخر. أميركا الفتنة المُتجبّرة ويأتي المسرح، الفن عموماً، ليذكرّك بحقّك من هذه الفتنة، وتلك مهمة الفنون.