لبنان الذي يشذّ عن قاعدة عدم الاستقرار

تداعيات الأزمة التي فجرتها الإستقالة فهي بحاجة إلى قراءة متأنية بالنظر إلى الواقع اللبناني الداخلي المعقد والقائم على توازنات داخلية دقيقة بين الطوائف. ولا سبيل في هذا المجال لإنكار أن الإستقالة أحدثت في الداخل اللبناني هزة سياسية كبيرة، وجعلت أكثر من تساؤل يتبادر إلى الذهن عما ستؤول إليه الأزمة الحكومية وما يمكن أن تتركه من تأثيرات سلبية على الساحة اللبنانية؟

في حال ثبوت الاستقالة يفترض برئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن يباشر الإستشارات النيابية الملزمة لاختيار خلفٍ له.

بقي لبنان بمنأى عن الإضطراب والحروب التي عصفت بدول عربية منذ عام 2011. ولم يتحقق ذلك فقط بفضل إرادة داخلية بالنأي عن النزاعات الدائرة. بل ساهم في الهدوء، قيام نوع من التواطؤ الضمني وغير المعلن بين الأطراف الإقليمية الأساسية وكذلك القوى الدولية الكبرى بتحييد لبنان عن آتون الحروب المستعرة من سوريا إلى العراق فاليمن.  

هذه المعادلة التي سادت نحو سبعة أعوام، تواجه اليوم تحدياً حقيقياً بالصمود أمام اشتداد آوار التوتر الإقليمي بين السعودية وإيران. هذا التوتر تصاعد مع انكشاف الميدان السوري عن مشهد رجحت فيه  كفة محور دمشق-بغداد-موسكو مع إلحاق الهزيمة عسكرية شبه كاملة بتنظيم "داعش" الإرهابي في آخر معاقله الرئيسية في مدينة البوكمال بمحافظة دير الزور. وتأمن بفضل ذلك الوصل البري بين دمشق وبغداد وتالياً قد توفر نصراً استراتيجياً للمحور المذكور.     

 ورداً على التوازنات الجديدة في سوريا ومع مراوحة الحرب مكانها في اليمن، تحركت الولايات المتحدة باستراتيجية تصعيد ضد إيران تمثلت في عدم مصادقة دونالد ترامب على التزام طهران الاتفاق النووي لعام 2015 وبالاتجاه نحو فرض المزيد من العقوبات على إيران والتوجه نحو إدراج الحرس الثوري على لائحة التنظيمات الإرهابية. وتشجعت السعودية بالموقف الأميركي، من خلال توسيع دائرة جبهات الإستنزاف الإقليمية مع إيران وحزب الله. فكان قرار إدخال لبنان في المواجهة. ولا يمكن تفسير الإستقالة المفاجئة لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلا في هذا السياق.

أما تداعيات الأزمة التي فجرتها الإستقالة فهي بحاجة إلى قراءة متأنية بالنظر إلى الواقع اللبناني الداخلي المعقد والقائم على توازنات داخلية دقيقة بين الطوائف.  ولا سبيل في هذا المجال لإنكار أن الإستقالة أحدثت في الداخل اللبناني هزة سياسية كبيرة، وجعلت أكثر من تساؤل يتبادر إلى الذهن عما ستؤول إليه الأزمة الحكومية وما يمكن أن تتركه من تأثيرات سلبية على الساحة اللبنانية؟ 

 وزاد الأمر غموضاً وضاعف من حجم التساؤلات، اللغط الذي أحاط بمصير الحريري نفسه بعد اللبس الذي رافق تقديم  الاستقالة من السعودية وليس من لبنان. إذ أن المتعارف عليه أن رؤساء الحكومات عند تقديم إستقالاتهم كانوا يفعلون ذلك بتقديمها مباشرة لرئيس الجمهورية. أما في حالة الحريري، فإن توازن القوى الداخلي، فرض على  القوى السياسية التريث حتى ينجلي مصير الحريري نفسه، هل هو قيد الإقامة الجبرية كما شاع وتردد في ظل توقيفات طاولت المئات من الأمراء والوزراء الحاليين والسابقين في المملكة على خلفية اتهامات بالفساد؟ أم أن تقديم الإستقالة من السعودية  أتي على خلفية أمنية، مع أن  الأجهزة الأمنية اللبنانية نفت علمها بوجود تهديد للحريري وفق ما أورده في خطاب الاستقالة؟  

 وفي حال ثبوت الاستقالة يفترض برئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن يباشر الإستشارات النيابية الملزمة لاختيار خلفٍ له. لكن أن هذه عملية دستورية قد تطول بعض الشيء في حال قررت كتلة المستقبل عدم المشاركة في الإستشارات أو أنها وضعت فيتو على مشاركة حزب الله في أي حكومة مقبلة، وقالت إنها لن تشارك في حكومة يشارك فيها الحزب، وذلك إنسجاماً مع الموقف السعودي التصعيدي حيال حزب الله.  وهنا يصعب إيجاد غالبية نيابية كافية أو سيدخل لبنان في أزمة ميثاقية.

وسيقود هذا  السيناريو إلى فراغ طويل على صعيد ملئ الشغور في كرسي الرئاسة الثالثة. وقد يكون هذا هو الرد السعودي على عدم موافقة الرئيس ميشال عون على نقض التحالف مع حزب الله والإنضمام إلى الحملة التي تستهدف الحزب. ومعلوم أن السعودية قبل عام كانت أعطت الضوء الأخضر لكتلة المستقبل للسير في انتخاب عون رئيساً بعد عامين ونصف عام من الفراغ في سدة الرئاسة. فهل قررت الرياض عبر استقالة الحريري وصعوبة اختيار خلف له في المدى المنظور، قلب الطاولة ومحاولة تعطيل عهد عون، عبر سحب الحريري من رئاسة الحكومة.  

وليس سيناريو تعطيل الحكم وشل البلاد سياسياً هو وحده ما يؤرق اللبنانيين. وإنما إنعكس ذلك على هناك الوضع الاقتصادي والخوف من مساعٍ لهز الاستقرار المالي السائد منذ اكثر من 25 عاماً. وعلى رغم أجواء التطمين التي يبثها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ووزير المال علي حسن خليل ومحللون اقتصاديون، فإن الوضع الاقتصادي يبقى هاجساً يؤرق اللبنانيين.   

ومن الطبيعي أنه في أجواء عدم الاستقرار السياسي، أن يقلق اللبنانيون من احتمالات حصول تفجيرات أمنية، مع أن الجهات المعنية تحرص على تبديد مخاوف اللبنانيين في هذا الشأن. ومنذ بداية الضغط الأميركي والسعودي على حزب الله، بدأ الحيث يتصاعد عن احتمال شن استغلال إسرائيل الجو الخليجي المشحون ضد حزب الله، لشن حرب على لبنان. وغذى من هذه المخاوف المناورات الإسرائيلية المتواصلة براً وبحراً وجواً منذ أسابيع.  

ويزيد من مناخات القلق اعلان السعودية صراحة بأنها ستلجأ إلى كل الخيارات للتعامل مع حزب الله ومن بينها السعي إلى إنشاء تحالف دولي ضد الحزب على غرار التحالف الذي أُنشيء لمحاربة "داعش". 

ومهما يكن من أمر، فإن لبنان بات الآن في قلب العاصفة الإقليمية، التي حاول عبر السنوات الماضية الدفع بكل قوة لتجنبها.