مابعد "ليلة السكاكين الطويلة" في "ريتز" السعودية

تعيش المملكة العربية السعودية انقلاباً واضحاً في نظام الحكم حيث تتم تصفية مراكز القوى الموروثة من العهود السابقة.

تغيير قاعدة الحُكم استدعت تصفية مراكز القوى الموروثة من العهود السابقة

لقد بات واضحاً أن المملكة العربية السعودية تعيش انقلاباً شاملاً في نظام الحُكم والسياسات الداخلية والخارجية. هذا الانقلاب تتالى فصوله منذ وصول الملك سلمان إلى الحُكم عام 2015 . فقد أطاح  بأخيه الأمير مقرن المعيّن في ولاية العهد من طرف الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، وجاء بابن أخيه الشقيق محمّد بن نايف كي يستبعد شقيقه الأمير أحمد، ومن ثم خلع بن نايف وحصر ولاية العهد بابنه القوي والمفضّل محمّد بن سلمان. إن إبعاد مقرن واعتماد بن نايف ومن ثم محمّد بن سلمان لولاية العهد مع وجود أمراء على قيد الحياة من أبناء عبد العزيز، يعني تغيير قاعدة الحُكم من الصيغة الأفقية (توالي أبناء المؤسّس وفقاً لوصيّته) إلى الصيغة العمودية  أي حصّر المُلك في الملك سلمان وأبنائه من بعده وهذا ليس غريباً تماماً على قواعد الحُكم في المملكة،  فالملك المؤسّس عبد العزيز حصر المُلك بابنائه بعد أن تولاّه من شقيقه.

تغيير قاعدة الحُكم استدعت تصفية مراكز القوى الموروثة من العهود السابقة. فقد تميّز عهد الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بتكوين مركز قوة لآل البراهيم أصهرته ولأسرة الرئيس الراحل رفيق الحريري ، وتميّز عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز بنشوء مركز قوة لمساعده التاريخي عبدالعزيز التويجري ولنجله خالد من بعده. وكان السيّد كمال أدهم صهر الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز يشكّل مركز قوة أيضاً لكنه لم يتمدّد نحو الاقتصاد وهُمِّش من بعد. وشملت التصفية أيضاً مراكز قوى من صلب عبد العزيز  كان من الصعب التفكير بازاحتها حتى الاسبوع الماضي، كالامير متعب بن عبدالله رئيس الحرس الوطني السعودي الذي يمثل القوة المسلّحة الأكبر والأهم بعد الجيش الوطني ، والأمير الوليد بن طلال الذي يُدير الشركة السعودية القابِضة ويحتل المركز الرقم 50 في سلسلة الثروات الكبرى في العالم. والملفت أن هؤلاء وغيرهم بما في ذلك رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري اقتيدوا في ليلة واحدة إلى فندق ال "ريتز" الفخم في الرياض ، لاستجوابهم حول الفساد وغسيل الأموال والصفقات المشبوهة إلى غير ذلك من المسائل التي كانت من عاديات  الحكومات السابقة في المملكة.

وكانت تصفيات مماثلة قد طالت مراكز القوى الدينية والثقافية التي  تصدر عنها اعتراضات  شأن الشيخ سلمان العودة الذي يتابعه أكثر من عشرة ملايين مُغرِّد على تويتر والذي اعترض على فرض الحصار على قطر، فضلاً عن  متشدّدين اعترضوا على  السماح للمرأة بقيادة السيارة أو الاختلاط في المدرَّجات الرياضية ناهيك عن تأسيس شبكة من السينما والمسارح ومراكز اللهو ..الخ

بهذه التصفيات المُتدرِّجة خلال أقل من مائة عام بقليل يكون الحُكم في الدولة السعودية قد انتقل تباعاً من آل محمّد بن سعود إلى آل عبد العزيز بن سعود، ومن ثم إلى دائرة  نفوذ السديريين من أبناء عبد العزيز وإلى آل سلمان بن عبدالعزيز ، ومن الصيغة الأفقية أي من أخ إلى أخ  إلى الصيغة العمودية من أب إلى إبن، والانتقال الأخير يتواصل هذه الأيام بما يشبه العملية الجراحية والراجح إنه يحظى بمباركة حلفاء المملكة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.

الوجه الداخلي الآخر لهذا الانقلاب في نظام الحُكم يطال العقيدة الوهّابية. فقد استمع العالم بأسره إلى وليّ العهد في مُنتدى ما بات يُعرَف ب " دافوس الصحراء" ، وهو يؤكّد على وجوب الخلاص من التطرّف " لا نريد أن نضيِّع ثلاثين سنة أخرى مع المتطرّفين سندمِّر التطرّف في هذا البلد " والتدمير بدأ للتوّ بكفّ يد الشرطة الدينية عبر السماح  بالاختلاط  في المدرّجات الرياضية وقريباً في إعطاء المزيد من الحقوق للنساء فضلاً عن  إشاعة مراكز التسلية المختلفة، الأمر الذي يستدعي صيغة دينية مختلفة  عن الصيغة الوهّابية المُتشدِّدة.

الوجه الثالث للانقلاب نرى أثره منذ ربيع العام 2015 في السياسة الخارجية العدوانية، من الانخراط المباشر في الحرب على سوريا إلى إشعال حرب اليمن، إلى إرسال قوات مسلّحة إلى البحرين إلى الصراع مع الأخوان المسلمين وإزاحة الرئيس محمّد مرسي وعزل حركة "حماس" ، إلى حصار قطر وأخيراً  التسبّب باستقالة الرئيس سعد الحريري وافتعال أزمة لبنانية مستعصية  بين 14 و8 آذار، وذلك كله على قاعدة التقارُب الصريح مع إسرائيل والصراع المفتوح مع إيران حول ملفات عديدة.

 ما من شك في أن التغيير الديموغرافي الذي طرأ على المجتمع السعودي خلال العقود الماضية قد لعب دوراً اساسياً في إتاحة هذا الانقلاب إذ ما عاد ممكناً أن تُدار المملكة التي تضمّ  70 بالمئة من الشبّان ممن تقلّ أعمارهم عن 30 سنة بوسائل حُكم بعضها مستمد من القرون الوسطى، ناهيك عن تأثير الثورة المعلوماتية وانبثاثها في هذا المجتمع ، الأمر الذي أضعف تأثير الإعلام التقليدي وأتاح مقارنة يومية بين أنظمة عصرية ونظام حكم ينتمي إلى عصور غابِرة. هذا فضلاً عن "الربيع العربي" الذي انطوى على شعارات تغيير كانت المملكة تدعمها في بلدان أخرى وتحجبها عن مجتمعها.

تبقى إشارة مهمة إلى الأزمة الاقتصادية التي تسبّبت بها سياسة  الرياض الخارجية والتي عكسها بشفافية تصنيف البنك الدولي للاقتصاد السعودي في المرتبة 22 في العام 2013 ، أي في بداية "الربيع العربي" وتدهوره إلى المرتبة 92 في العام 2017 ، أي خلال أقل من 5 سنوات جرّاء كلفة الثورات الباهظة والحرب على اليمن وحصار قطر والتدخّل في ليبيا ومصر وبلدان أخرى ،  هذا فضلاً عن انحدار أسعار النفط  الأمر الذي أدى أيضاً إلى ارتفاع  حجم العاطلين عن العمل إلى نسبة 40 بالمئة.

يستمد الحُكم في السعودية شرعيّته ليس من الأسطورة الوطنية الحديثة كباقي الأنظمة التي نشأت في القرنين الماضيين ، وإنما من ثلاثية آل سعود والوهّابية والحماية الأميركية. إن تغيير قاعدة الشرعية داخل الأسرة وفي مضمون الشريعة الوهّابية ينطوي على مغامرة  خطيرة تزداد خطورة في ظلّ السياسة الخارجية العدوانية المستمرة حتى هذه اللحظة ، ما يعني أن مصير هذه المغامرة  قد يشبه الصيغة الروسية  التي أرساها فلاديمير بوتين أو قد يؤول إلى ما يشبه مغامرة الشاه محمّد رضا بهلوي الذي كان حليفاً للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ورمزاً لتحديث مُفرط ومُتغربن مشروط بالتبعية المُطلقة.