فلسطين القضية الأم.. والمتآمرون عليها
لست بالتأكيد ممن يجيدون العودة إلى الوراء في مصافحة التاريخ بعيداً عن المستجدات من الأحداث، لأن المستجدات هي أكثر نضجاً في الأحداث من حولنا في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي بالخصوص إذ ما كان مخفياً يصبح لاحقاً الشاهد الأكثر سوءاً، والأكثر مطالبة بالقراءة والتحليل خاصة والقضية الفلسطينية هي من أهم القضايا التي لعبت بها دول عربية، وكثيراً ما اختفت تلك الدول تحت شعارات مزيّفة لقضاء مآربها وحماية المصالح الأميركية من خلفها حماية لعروشها بناء على مقولة "الحماية لكم والنفط لنا" وأياً كان الأمر فإن بلدان المغرب العربي سيظل إحساسهم مشدوداً بها ووجدانهم متقداً تجاهها لاعتبارات دينية، وقومية، وإنسانية، ونحن على مشارف نهاية مئوية وعد بلفور نذكر بشيء من تلك المتآمرات وبعض المواقف المشرفة، لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين..
(الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة..) مقولة قالها الرئيس الراحل هواري بومدين وردّدها وسيظل يردّدها الشعب الجزائري إلى أن تتحرّر فلسطين، ولا غرابة في ذلك، فالجزائر ومعها بلدان المغرب العربي باستثناء نظام الحكم الملكي المغربي الذي يبدو أنه من دُعاة التطبيع مثله مثل بلدان الخليج لكونه ملكياً مثلهم.. هذه البلدان لم تتأخر يوماً في مساعدة أشقائها الفلسطينيين، والدفاع عن قضيتهم وهي القضية المركزية في الصراع بيننا وبين الغرب كله.. لقد ساهمت الجزائر ولازالت في لمّ الشمل الفلسطيني ومساعدته مادياً ومعنوياً ولن تتأخّر يوماً حتى في أصعب الظروف الاقتصادية، عن المقاومة، وتؤكّد أبجدياتها السياسية إن ذلك واجب شرعي وليس منّة، وإن لفلسطين حقاً عليها وهي ترى إنها قضية مصيرية للأمّة العربية باعتبارها قضية احتلال واجب مقاومته مثلما واجب تقرير مصيره بنفسه، كان هذا مند بداية الاحتلال الإسرائيلي رغم أن الجزائر وقتها كانت تقاوم الاستعمار الفرنسي، وتضاعف جهدها تجاه فلسطين بعد الاستقلال مباشرة، فالجزائر هي التي أدخلت القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة وهي التي فتحت ذراعيها لتسييس الدولة الفلسطينية في الجزائر وإعلانها من عاصمتها، وهي أيضاً مع تونس مَن فتحت أبواب ثكناتها العسكرية للمقاومين الفلسطينيين بعد خروجهم من لبنان ووضعت تحت تصرّفهم ثكنة عسكرية كاملة بكل أجهزتها وقتها حاولت إسرائيل ضربها بواسطة "كوماندوس" إسرائيلي من البحر، إلا أن الأجهزة الجزائرية المختصّة علمت بالمؤامرة وأحبطتها في المياه الدولية..
إذن، ليس من السهل على الجزائر وبلدان المغرب العربي ابتلاع الحدث الفلسطيني والصمت على ما يحاك ضده، وبالتالي ضد الأمّة العربية، ولم تتأخّر في مواقفها في المحافل الدولية عن التعريف بها، حتى أن الجزائر اليوم مستهدفة من طرف "الموساد" عن طريق بُعد العرب والأفارقة لولا حنكتها وتاريخها في فكّ رموز الاستعمار وخفاياه.. وإذا كان الكل يتغنّى بأن القضية الفلسطينية ويقول هي قضية الجميع فلماذا يتسابقون إلى إسرائيل تحت ذرائع البحث العلمي والأكاديمي..؟ ولماذا ينشرون التفرقة بالفتن الطائفية بين هيئاتها بدعوى محاربة التدخّل الإيراني إلى جانبها ويقولون ذلك في غير وعي وسوء تقدير للمواقف والمشاعر الإسلامية، إنها قضية عربية ويحلّها العرب ولا دخل لإيران الفارسية فيها..! ويتمسّحون بكل ذلك إلى وليّ أمرهم "دونالد ترامب"..؟ بل إن السعودية كانت أول الدول الأكثر استعداداً لنصب البوابات الالكترونية على مداخل المسجد الأقصى وليست إيران ولا حزب الله، تقول، صحيفة "ميكور ريشون"، ذات التوجّهات اليمينية، إن السعودية كانت أكثر الدول العربية التي "أبدت تفهماً لقيام إسرائيل بنصب البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى" ثم لماذا يتآمرون على سوريا وهي الحاضنة للمقاومة.. أليس ذلك كله يصبّ في صالح إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية..
في الوثائقي الذي تنشره قناة الميادين يؤكّد الرئيس المقاوم إميل لحود على أمر مهم وخطير هو أن مبادرة السلام السعودية وهي المبادرة الأخيرة من الإعراب رفضت أميركياً وطلبت من معدّيها العودة بها إلى إسرائيل لمراجعة بعض محتواها، وتم ذلك فعلاً والشاهدان فيها عمرو موسى وسعود الفيصل.. ولماذا تقدّم السعودية وبطلب أميركي إلى منظمة "الكونترا"(وهي صنيعة المخابرات الأميركية) ثمانية ملايين دولار لمحاربة الجيش والنظام في "نكاراكوا" ، وقد تم تسديد المبلغ عن طريق بنك سويسري في عهدة فهد بن عبد العزيز ولا يقدّم ذلك للمقاومة الفلسطينية.. ثم لماذا تنفق دول الخليج أكثر من 200 مليار دولار لإسقاط النظام العراقي وتشلّ العراق ولا تقدّم تلك المليارات إلى المقاومة لمحاربة العدو الأكبر للأمّة العربية والإسلامية..؟ بل لماذا تصنّف مجموعة دول التعاون الخليجي (الذي هو اليوم أمام التلاشي) حزب الله بأنه حزب إرهابي، وفي مقابل ذلك انتقد محلّل الشؤون العسكرية في القناة العاشرة الإسرائيلية ألون بن دافيد اعتبار حزب الله "منظمة إرهابية" منطلقاً من قيمة الحزب عسكرياً معتبراً أن "مكانته العسكرية وإن كان عدواً فهي محل احترام". وهو الذي حماهم وحمي المنطقة من عربدة إسرائيل واوجد توازن الرعب معها.. بل لماذا يغلق معبر رفح وهو مصري ويحاصر أهل غزّة بمثل حصاره من إسرائيل ثم يقولون نحن مع فلسطين وعملهم يقول العكس. وحتى المساعدات الجزائرية المقدّمة للشعب الفلسطيني حجزت لأكثر من شهر في مصر ولم تصل إلا بعد معاناة وتدخّل من الخارجية الجزائرية وربما الرئاسة الجزائرية.
مأساة العرب انتقلت من فلسطين إلى اليمن وحصاره يشبه حصار إسرائيل لفلسطين! وهو اليوم يُذبح من الوريد إلى الوريد بأمر من وليّ العهد السعودي المهووس، وتابع له من الإمارات مصاب بجنون العظمة.. إذن هؤلاء هم مَن ضيّعوا القضية الفلسطينية وهم من أساؤوا إلى الأمّة الإسلامية بكاملها، فما الفرق بين ما تتعرّض له سوريا من ذبح وخراب من طرف السعودية والإمارات وقطر وبين ما تقوم به إسرائيل في فلسطين، الكل سواء والكل يتآمر لسبب وحيد المحافظة على استمرارية الحكم السلالي والنهب المقنّن لمصادر الرزق لشعوبهم، والأسوأ من هذا أنهم يدّعون الإسلام السنّي وإسلامهم صار مشكوكاً فيه وإنهم لضدّه يقومون بما يقومون به في العالم العربي.. لاشك أن الإسلام يرفض القتل ويحرّمه كما يحرّم العدوان ويدعو إلى التسامح والمحبة، وهم قد أسقطوا من قاموسهم السياسي كل ذلك بدعوى محاربة الحيثيين والشيعة والإباضية والأشاعرة والصوفية.. نحن في شمال إفريقيا شعوباً وحكومات نعاني من هذا الإرهاب الفكري الدخيل علينا ونحاربه، ولكن رغم ذلك لم ننس فلسطين لا في ذكرى مئوية بلفور ولا بعدها، نحن ملتزمون أخلاقياً وسياسياً ودينياً بمبدأ المقاومة لأنها وحدها المنتصر في النهاية، وكما قاومنا 132 سنة الاستعمار الصليبي الأطلسي ونجحنا سننتصر على قوى البغي في فلسطين رغم وقود الخيانة التي تمارس من دول كنا نعدّها مُدافعة عن الإسلام فإذا هي خراب مطلق على الإسلام والمسلمين.
حين يقول الجنرال أنور عشقي بأنه يلتقي باستمرار مع بعض القادة الإسرائيليين هو عمل فردي خارج النظام الرسمي..؟ أوليس هو جنرال وعليه واجب التحفّظ..؟ أوليس قبل ذهابه للقاء الصهاينة تخصّص له المؤسسة العسكرية حراساً يسافرون معه وبأمر من هيئة مهمة في النظام السعودي..؟ ثم أليس من العيب عليه أن يلتقي من يقتلون يومياً أطفال فلسطين وينتظرون في نفس الوقت ساعة الحسم مع النظام السعودي.. ونفس الإشكالية تطرح أيضاً على الجنرال تركي الفيصل مدير المخابرات السعودية سابقاً، ما يقولانه في ردودهما على مهمتهما بالتطبيع والخيانة للشعب الفلسطيني شبيه بما ترويه القواعد من النساء من خرافات وأساطير.
إن النظام الذي يصارع بلا هوية ضد من هم أفضل منه تقديراً للسياسة ونتائجها في الظروف المتآكلة، هو نظام بليد ولن يتردّد في دفع الأمّة العربية إلى المحرقة بواسطة الطائفية والعنصرية المذهبية لمذهب ليس له من المقومات غير نبش القبور وإزالة بقايا الحضارات من على جدران التاريخ، وهو ما لم يفعله نبيّ مُرسَل ولا صحابة ولا حتى التابعين.. هنا ضاعت فلسطين وهنا تمّت المتاجرة بالإسلام في وضح النهار.
والمؤسف أن هذه البلوى وصلت إلينا نحن الذين نتعامل مع الرأي الآخر بوئام تام وبحوارات هادئة، فهل تعي دول الخليج وعلى الأخصّ السعودية المخاطر التي تنتجها بمواقفها السيّئة الذكر تجاه الوطن العربي والإسلامي وتتوقّف عن تفقيس الفتاوى الوهّابية المناهضة للإسلام بداية وللطوائف الإسلامية غير الدائرة في فلكها المذهبي، في مقابل ذلك يقول مفكّروها المؤمنون بالرأي الآخر وممن لم تعمَ بصائرهم بأن اجتماع السنّة والشيعة سيخلق عالماً إسلامياً متميزاً، يقول الداعية السعودي محمدّ العنزي "كقارئ وباحث ومحلّل لديّ فضول كبير لمعرفة سبب قوة ونجاح المذهب الشيعي، لأنني أظن فعلياً لو طبّقناه كسنّة سنكون أعظم قوى على وجه الأرض سنّة وشيعة". ويتابع بالقول "لو ابتعدنا عن لغة التقديس الأعمى ولو ركّزنا على العقل قبل النقل فسنتقدّم فكرياً ومعرفياً، لا تقدّس كل ما تقرأه، إن قبله عقلك خذه، وإن رفضه أرفضه، السنّي أخو الشيعي، والشيعي أخو السنّي، يختلفون مع بعضهم ولكنهم يستحيل أن يكفّر بعضهم بعضاً فكلنا مسلمون موحّدون". والمنطق هذا إن أخذ به هو الذي سوف يصنع المعجزة، معجزة التحرير، بعد ما صنعتها الجزائر في وجه فرنسا وخرجت بالمقاومة منتصرة.