صوت يعلو فوق صوت المدعكة
لم يكن جميلاً أبداً أن تشيّع جنازات بعض الشهداء في تكتم وهدوء، ولم يكن جميلاً بالمرة أن يترك الرئيس كل هذا ويذهب لتكريم جنود مصريين ماتوا في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن جميلاً أن تعلن وزارة الداخلية عن العثور على جثمان شهيد، ثم تنفي عثورها على جثمانه بعد أن يوضح والد الشهيد أنه مفقود وليس شهيداً، وبعد أن يسرّب زملاء الضابط معلومة أنه قد أخذ أسيراً من قِبَل الإرهابيين.
بمصاب جلل، وصلتنا أنباء مهولة عن كمين نصبته جماعة إرهابية – لازلنا لا نعلم كنهها على وجه التأكد حتى الآن – لكتيبة من وزارة الداخلية تتشكل مما يقرب من 70 فرد أمن، ما بين ضباط قوات خاصة، وضباط أمن وطني، وضباط مباحث، وعساكر، على طريق الواحات – ومازلنا غير متأكدين من النقطة التي نصب فيها الكمين – بل إننا مازلنا غير متأكدين من أعداد الشهداء في صفوف الشرطة، وأعداد القتلى في صفوف الإرهابيين، إن كان بين الإرهابيين قتلى!
ما بلغنا بشكل مؤكّد أن هناك مجزرة حدثت لقوات الشرطة المصرية لا نعلم على وجه الدقة ملابساتها، أو بالأحرى، لم ترغب الدولة في وضع المواطن المصري في الصورة بشكل واضح، وتركته لتغريدات مصطفى بكري، وصراخ أماني الخياط، ومندبة أحمد موسى، بخلاف شماتات قناة الشرق، مع بعض تسريبات صوتية لضباط أو جنود – لا نعلم بالتحديد – يطلبون النجدة والعون، ويصرّحون بإن سلاحهم وهواتف الثريا التابعة لهم وأجهزة استدلال الطريق (جي بي إس) قد سرقها الإرهابيون، وهم الآن يطاردونهم بينما يختبئ رجال الشرطة تحت الجبل! إلى جانب تسريب صوتي آخر لشخص قيل أنه طبيب ضابط يروي ما حكاه له العساكر المصابون فور وصولهم إلى المستشفى.
لكن الداخلية أصدرت بياناً مقتضباً، تشرح لنا فيه "بالمحسوس" إننا أناس متطفّلون، وأننا نسأل في ما لا يعنينا، وأن الأمر برمّته في يد من يفهم ويعلم ويُحسن التصرّف، ولا داعي للتدخّل في أمور ليست من شأننا، وأن علينا الكفّ عن الفضول الذي قتل القطة، أنتم مالكم أنتم؟
هو نهج اتّبعه الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ تولّيه منصب الرئيس: اسمعوا كلامي أنا بس... التقارير السرية بتاعة الحربية قالت أن تيران وصنافير سعوديتان، أنتم حتفهموا أكتر منهم؟ … أنا مش عايز كلام في الموضوع ده تاني.
هكذا قرّر الرئيس ونظامه إقصاء شعب بأكمله، ببساطة لأنه "ما بيفهمش"، ولأنه السلطة لا تُسأل عما تفعل، لأنها أكثر دراية، ومعرفة، وفهم، وهي تعلم مصلحتنا، ونحن لا نعلم مصلحة أنفسنا، ويتساءل دوماً الرئيس: أنتم مش واثقين فيّا؟ حتى لو مش عارفين.. هل تظنّوا إني ممكن أضيّعكم؟
بناء على هذه الخطة المحكمة في إلقائنا في البدروم، وعدم الاهتمام بإطلاعنا على أي شيء، فمن الطبيعي أن يلجأ هذا الشعب المُتطفّل، الذي يقتله الفضول، ليتلصّص على معلومات لا تخصّه بشأن قتل عشرات من أبنائه في الصحراء! لجأ المواطنون إلى قناة البي بي سي وموقع النيويورك تايمز، إلى جانب متابعة محمومة لبرامج التوك شو عسى أن يجدوا فيها خيطاً يشفي رغبتهم في معرفة ما حدث، إلى جانب متابعة موقع تويتر وفيس بوك وقنوات الأخوان التي أذاعت بعض التسريبات.
الجانب الأثير بالنسبة لي في هذه المأساة هو مشهد طبّالي السلطة وهم يتشاجرون في ما بينهم ويتّهم كل واحد منهم الآخر بالخيانة لأنه سرّب معلومات لم يكن له حق في تسريبها، أو استنتج تحليلات لا تليق، أو علّق تعليقات تشي بالتشكيك في الدولة، وقد كان هذا الأمر جد ممتعاً في هذا السواد الحالك.
جميل أن ترى الدولة تضنّ بالمعلومات حتى عن طبّاليها، بل يبدو أن الدولة في حال ارتباك تام لدرجة أنها لم توزّع المنشور الدائم المفعم بالتوجيهات والتعليمات التي يتلقاها مقدّمو التوك شو، ما أدّى إلى تضارب بينهم في الأداء، تطوّر إلى سباب واتهامات بالخيانة ومطالبات بالمحاكمة.
لكن لم يكن جميلاً أبداً أن تشيّع جنازات بعض الشهداء في تكتم وهدوء، ولم يكن جميلاً بالمرة أن يترك الرئيس كل هذا ويذهب لتكريم جنود مصريين ماتوا في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن جميلاً أن تعلن وزارة الداخلية عن العثور على جثمان شهيد، ثم تنفي عثورها على جثمانه بعد أن يوضح والد الشهيد أنه مفقود وليس شهيداً، وبعد أن يسرّب زملاء الضابط معلومة أنه قد أخذ أسيراً من قِبَل الإرهابيين.
مع هذا الارتباك المعلوماتي، ومع التعبير الواضح عن الاحتقار الكامل للمواطن المصري المتطفّل الذي يريد أن يعلم معلومات لا تعنيه في شيء، لم تجد وسائل التطبيل الإعلامية بداً من شنّ هجومها على البي بي سي والنيويورك تايمز بل واتهامهما بعدم المهنية لنشرهم معلومات لم تنشر رسمياً من قِبَل السلطات المصرية التي كانت قد قالت بأنها لن تنشر معلومات لأن "وأنتم مالكم؟"، ثم الانعطاف قليلاً لترديد الأغنية السمجة الممجوجة: كل ده بيحصل بسبب نشطاء السبوبة وبتوع حقوق الإنسان! وأنا حقيقة لا أعلم ما هو دور نشطاء السبوبة وحقوق الإنسان في هذا الحادث تحديداً؟ وما شأن "نكسة يناير" التي أشارت إليها لجان النظام الإلكترونية بوصفها المتهم الأول، قاصدين بذلك ثورة يناير المجيدة، التي لولاها لما كان عبد الفتاح السيسي رئيساً الآن.
استنّوا كده... يبدو أنها نكسة فعلاً.