الرئاسة المصرية ومفهوم البناء
الحقيقة أن فرصة الترشح للرئاسة مرة أخرى هي حق يكفله الدستور للرئيس، ولكننا هنا نتحدث عن تجربة دامت لأربعة سنوات تضمنت نجاحات وإخفاقات يجب علينا استرجاعها واستحضارها –كمواطنين- في أذهاننا بشكل واضح وأقرب للقسوة قليلًا منه إلى الموضوعية المُجرّدة حيث أننا نتعامل مع مستقبل وطن كبير كمصر يمر بمرحلة حرجة وخطيرة.
استيقظت القاهرة على أوراق جديدة تغزو شوارعها ومحالّها التجارية ومصالحها الحكومية، أوراق جديدة تتضمّن بيان أو التماس أو طلب ينتظر التوقيع في ذيل الصفحة، توقيع المواطن المصريّ. استيقظت القاهرة وتبعتها بقية المدن في بطء وهدوء شديدين، صورة متأنّية من زحف الطلب الخاص إلى صورة المطلب العام. صورة مطالبة جمعيّة بإعادة ترشّح الرئيس عبد الفتاح السيسي لفترة رئاسية جديدة، الأمر الذي لاقى استنكار واسع في مواقع التواصل المجتمعي وأوساط الشباب، وقبول واسع في أوساط المؤيدين، وتجاهل تام عند غير المُسيّسين وكأن شيئًا لم يكن.
جاءت الحملة بعنوان "علشان تبنيها" مُخاطبة رئيس الجمهورية الحالي من خلال الجماهير لإعادة ترشحه للرئاسة مُستندة على منطق "البناء والتشييد"، والحقيقة أن مُصطلح البناء هو المصطلح المفضل لدى الرئيس وهو دائم استخدامه في التعبير عن أهدافه وخططه. الحقيقة أن المشير عبد الفتاح السيسي الذي استقال من القيادة العامة للقوات المُسلحة المصرية والذي لم يطرح برنامج انتخابي مُحدد وخطة واضحة للناخبين، وهو من فاز بالأغلبية الساحقة خلال انتخابات 2014 الرئاسية لم يطرح سوى تلك الكلمة وقتذاك، وقد شرح رغبته في "بناء دولة متماسكة" كهدف رئيسي ومحوري يكاد يكون الهدف الأوحد وهي الكلمة التي هزمت المشروع الانتخابي لمنافسه السيد حمدين صبّاحي بأغلبية ساحقة.
يأتي اهتمام السيسي ببناء الدولة من مُنطلق تعبيره عن أننا نعيش في "شبه دولة" ذات مؤسسات مهترئة وقد مزّقت الثورة ما تبقى من تماسك مفاصل الدولة المصرية وهو الأمر الذي تسبب في الانهيار الاقتصادي والنقلة النوعية للعمليات الإرهابية والفساد والمخالفات المالية. وهكذا كان أول بناء للرئيس هو أن بنَى فوق ضعف المؤسسات كافة مشاكل الوطن، وهو تحليل ذو وجاهة بالفعل ولكنه تجاهل تفكيك العلاقة بين الفساد واهتراء المؤسسات واعتبر –ببساطة- أن الفساد المالي والإداري وما يترتب عليه من تكبد الدولة خسائر فادحة في كافة المجالات هو نتيجة لضعف المؤسسات والتي أتى كي يعيد بناءها مما يعتبره هو الطريقة المُثلى لمحاربة الفساد، متجاهلًا أن الفساد الذي بدأ صغيرًا وكبر تدريجيًا مع الوقت من السبعينيّات وحتى اليوم، والذي أخذ شكله الفادح منذ عهد مبارك حتى أصبح كل مسؤول عن مقاطعة في البلاد مشرفًا على عملية الفساد الإداري، هو في الحقيقة السبب الرئيسي لانهيار مؤسسات الدولة وليست المظاهرات والانتفاضات التي تتحرك ضد هذا الفساد. كما تجاهل أيضًا أن إعادة البناء تلك دون محاربة حقيقية للفساد لن تعني أي شيء سوى بناء هيكل ذو شكل وصرح مُزيّن أما الأعين دون ثمة محتوى يمكن أن يستند عليه الشعب بأي شكل في تنظيم حياته ومعيشته كدور رئيسي للدولة المذكورة.
أما النقطة الثانية التي استند عليها الرئيس في تقديم نفسه كأقوى مرشح رئاسي على الساحة هي محاربة الإرهاب، والحقيقة أن البطولات التي حدثت في سيناء خلال معارك الاستنزاف الجارية بين الجماعات الإرهابية والجيش المصري، والتي تزامنت مع انتصارات سوريا المتتالية على الإرهاب، أعطت في أحوالٍ كثيرة مصداقية في هذا الأمر خاصة مع التراجع النوعي في العمليات الإرهابية من معركة "كرم القواديس" وحتى معارك "حق الشهيد" والتي بالمقارنة سنجد انقلابًا واضحًا في ميزان الغلبة وتراجع واضح حتى لطموحات الجماعات في سيناء. ولكننا بنظرة أكثر شمولًا نستطيع أن نرى مدى فداحة وخطورة وصول تلك الجماعات إلى مدينة العريش إلى حد تهجير أغلب الأسر المسيحية منها تجنبًا لحدوث مذابح طائفية، وسنرى أيضًا مدى خطورة تكرار التفجيرات التي ينجحون في تنفيذها من داخل الكنائس في سابقة لم تحدث من قبل عهد السيسي، بل إن أضخم الأحداث المشابهة قبل عهده كانت في كنيسة القديسين بالإسكندرية والتي لم يتم تفجيرها من الداخل بل حدث التفجير في الساحة الخارجية بالشارع أمام الكنيسة. كما أن تلك التفجيرات جاءت في مركز القاهرة بالعباسية وبينها وبين الكاتدرائية المرقسية بضعة أمتار، في سابقة لم تحدث أبدًا مما يدل على تراخٍ أمنيّ غير مسبوق وربما على اختراق أمني غير مسبوق أيضًا. وبالطبع علينا إضافة حادث طريق الواحات البحرية بالجيزة والذي استشهد فيه أغلب أفراد وحدة العمليات الخاصة المكلفة بالمهمة. هنا وبشكل أكثر موضوعية سنجد أنه في ملف الإرهاب –ورغم التقدم والنجاحات الواضحة- هناك مشاكل ضخمة وجديدة تسببت في كوارث فادحة.
أما النقطة الثالثة وهي الاستقلال الوطني، والتي عبّر عنها الرئيس خلال فترة ترشحه بأنه لن يسمح لأحد بأن يملي على مصر ما تفعل وما لا تفعل، فهي نتيجة طبيعية لبناء دولة قوية لا تحتاج من أحد أن يملي عليها شيئًا بأي مقابل، ولكن هل يستوي ذلك مع الفترة الرئاسية الأولى التي شهدت قضية ترسيم الحدود البحرية مع المملكة السعودية والتي تضمنت نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى المملكة؟ مع الأخذ في الاعتبار أن اعتماد تلك الاتفاقية جاء رغمًا عن أحكام قضائية واضحة وصريحة وتاريخية تقضي بمصرية الجزيرتين وبطلان الاتفاقية، وهذا الأمر أيضًا لا يستوي وبناء دولة متماسكة تتحدى فيها الحكومة أحكام القضاء.
الحقيقة أن فرصة الترشح للرئاسة مرة أخرى هي حق يكفله الدستور للرئيس، ولكننا هنا نتحدث عن تجربة دامت لأربعة سنوات تضمنت نجاحات وإخفاقات يجب علينا استرجاعها واستحضارها –كمواطنين- في أذهاننا بشكل واضح وأقرب للقسوة قليلًا منه إلى الموضوعية المُجرّدة حيث أننا نتعامل مع مستقبل وطن كبير كمصر يمر بمرحلة حرجة وخطيرة للغاية كالتي نعيشها اليوم، مرحلة يُدفع فيها بناء الوطن الحقيقي بدماء أبطال حقيقيين في كل أنحاء البلاد وبالأخص في سيناء الحبيبة. مرحلة مات لأجلها شهداء حلموا بالعيش والحريّة والعدالة الاجتماعيّة، فيجب علينا إذًا تعريف "البناء" المقصود في تلك الحملة قبل أن نهم بتأييده، وذلك التعريف لن يستوي دون نظرة إلى السنوات الأربع الماضية.