تركيا في إدلب، أحلامٌ قديمة ومخاطر ماثِلة

 كلما تقدّمت الأمور بالأزمة السورية يزداد الخلط بين الماضي والحاضر بالنسبة لتركيا، يصبح حاضر التدخّل في سوريا أشبه بماضيه. وقد قَدَّمَت تركيا تدخُّلَها في إدلب، كما لو أنها تفعل ذلك لأول مرة، وقالت إنها تطبّق اتفاق "خفْض التوتّر" في المدينة وريفها.

يمثّل التدخّل التركي في إدلب تحدّياً كبيراً لسوريا وحلفائها

 

ما حدث بالفعل هو أن القوات التركية دخلت إلى المنطقة بمعيّة وحماية جبهة النصرة، وتمركزت في نقاط تبعد 3-4 كيلو متر ات من مواقع كردية في محيط عفرين؛ الأمر الذي أثار انتقادات حادّة من قِبَل سوريا التي وصفت التدخّل بـ "العدوان السافِر"؛ فيما لم تهتم روسيا باعتراضات سوريا، وقد راجت في الأوساط السورية أقاويل بأن موسكو لم تَسعَدْ بردّة فعل دمشق.

تختلف إدلب عن غيرها من المناطق والمدن السورية، وهذا لا ينحسب على جميع من فيها، إذ لم ينقطع ارتباطُها بتركيا، ولم يضعف انجذابُها إليها، وكانت آخر منطقة تنزل العلم التركي حتى بعد جلاء الترك عن سوريا عام 1918، وأول من أعاد رفعه في مرحلة مبكرة من الأزمة السورية؛ ومن الدلائل القديمة على ذلك أنها عندما ناهضت الفرنسيين في عشرينات القرن الماضي، رفع ثوراها علماً ذا وجهين، الوجه الأول هو علم سوريا، والوجه الثاني هو علم تركيا! ومنهم من قاتل مع مصطفى كمال (أتاتورك) في ما عُرِفَ بحرب الاستقلال 1919-1923. ولم تتمكّن فرنسا آنذاك من ضبط الأمور في إدلب ومحيطها إلا بتوافقات كانت أثمانها ثقيلة لصالح تركيا الكمالية.

علينا أن نستدرك على ما ذكرناه أعلاه، إذ إن السوريين لم يكونوا حاسمين بما يكفي تجاه تركيا آنذاك، وقد اختاروا أول رئيس لدولتهم الوليدة –في عشرينات القرن الماضي- شخصاً تركياً لا يعرف العربية، وأراد أن ينقل العاصمة من دمشق إلى حلب الأقرب جغرافياً إلى أنقرة!

الكوريدور أو الممر إلى شاطئ المتوسّط هو حلم كردي وخرافة تركية، هنا يتضافر الحلم والخرافة في تعريض سوريا لمزيد من التحديات. وهكذا تركّز تركيا على أن منع الكرد من تحقيق ذلك الحلم هو الهدف الرئيس لعملية إدلب، والواقع أن في الأمر خديعة كبرى، إذ أن الوصول إلى شاطئ المتوسّط دونه صعوبات تفوق كثيراً مقدّرات الكرد، كما أن منعهم من ذلك يفوق كثيراً مقدّرات تركيا نفسها.

تركيا ليست ضد كرد سوريا بالمطلق، صحيح أنها تحاول منعهم من "الوصل الجغرافي" بين الكانتونات التي أقاموها على عَجَل، إلا أن تركيا نفسها لا تمانع أن يتم ذلك "الوصل" عن طريقها هي، كما أن التعاون بينها وبين كرد سوريا لا يزال قائماً.

من الواضح أن هدف التدخّل التركي هو إقامة "كوريدور" أو "منطقة سيطرة" تركية تمتد من باب الهوى إلى مدينة جرابلس غربي نهر الفرات، وجنوباً حتى مدينة الباب؛ تتصل بمنطقة أخرى تمتد من جسر الشغور جنوباً إلى إدلب ومنها إلى إعزاز في حلب شمالاً عبر ناحية جنديرس التابعة لمنطقة عفرين. 

لم تظهر كلمة "لا" واحدة من قِبَل التنظيمات المسلحة وغير المسلحة تجاه التدخّل التركي، بل إنها جميعاً رحّبت بها، وخاصةً الخصمين اللدودين المفترضين "جبهة النصرة" و"أحرار الشام"، والحقيقة أن تلك التنظيمات هي تنويعات على أصل واحد، يَحتلّ أحدها واجِهَةَ المشهد، فيتنحّى الآخر، ولا شعور بالخسارة أو الهزيمة، لأن هذا النمط من التنظيمات لا يهتم كثيراً لموقعه وإنما لتابعيّته ووظيفته، فيسعد بموقعه أياً كان، ويتنظر أن يأخذ دوراً جديداً، وهكذا ...

يمثل التموضع العسكري للقوات التركية في إدلب ومحيطها، وخاصة في جبل بركات وجبل عيسى، دلالة واضحة على أهداف تتجاوز اتفاق "خفْض التوتّر". وقد صرّح رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أن أنقرة ستؤسّس نقاطاً لبقاء قواتها في المستقبل. (تصريحات 10 تشرين الأول/أكتوبر الجاري). ويمكن تركيز أهداف تركيا من عملية إدلب في النقاط الرئيسة التالية:

  • إقامة منطقة سيطرة تركية، ومنع استهداف الجماعات المسلحة من قِبَل سوريا وحلفائها، وتأمين بيئة دعْم وتنظيم وإسناد مفتوحة لتلك الجماعات، بضمانات أستانة، وحماية روسيا نفسها.
  • خلق بيئة موائمة لإقامة بنى ومؤسسات للمعارضة، بما في ذلك نقل حكومة الائتلاف من تركيا إلى إدلب، بدلاً من استئجار أنقرة لها مبنى من طابقين أو ثلاثة على الجانب الآخر من الحدود.
  • القيام بـ "عمل استباقي" لمنع الكرد من استثمار "إنجازهم" في الرقة باتجاه تعزيز كانتون عفرين.
  • قد تُعزِّزُ خطوات ترامب الأخيرة تجاه إيران آمال وتقديرات أردوغان بعودة الدفء إلى علاقات بلاده بواشنطن.

في ما يلزم

يمثّل التدخّل التركي في إدلب تحدّياً كبيراً لسوريا وحلفائها، وإن التردّد في احتوائه يمثّل خطأ يصعب إصلاحه، وقد يخلق أوضاعاً يصعب تجاوزها. ولعلّ أولى المهام أمام سوريا وحلفائها،  العمل ما أمكن على:

  • جعل وجود تركيا في إدلب والمناطق السورية الأخرى مؤقتاً.
  • احتواء سياساتها تجاه السكان المحليين واللاجئين.
  • عدم تمكينها من الاستثمار في توازنات وتفاهمات مؤقتة لتحقيق مكاسب دائمة.
  • ألا تكونَ مُكافَأةُ دخولها في مسار أستانة وابتعادها النسبي والعَرَضي عن واشنطن أكبر من اللازم.

ليس بعيداً أن تُصدِرَ غرفةُ عمليات حلفاء سوريا بياناً يحذّر من تبعات التدخّل التركي في إدلب، على غرار ما فعلت تجاه تجاوزات تركيا على اتفاقات سابقة. وبالنسبة للحلفاء، فالمسألة ليست سوء فهم لموقف تركيا، فهم يعرفون أردوغان جيداً، إلا أن الرغبة في جذبه إلى مسار أستانة، لم تترافق بالتحسّب والتحوّط اللازمين على الدوام.

وهكذا، تجد تركيا أن مكاناً واحداً في سوريا تقريباً يلتقي فيه الأمس واليوم، وهو إدلب، وحيث يبدو الماضي راهناً جداً، يأمل أردوغان والموالون له أن يصير هو المستقبل!