احكم بالعدل يا قاضي.. قدامك مظاليم
قصة ياسين وبهية المأسوية، تتجسّد دوماً، وتعاد ثم تعاد، قصة مصرية، لا يمكن أن نقول إنها تبعث لإنها لا تموت.
من أغاني التراث المصري بالغة القدم:
يا بهية وخبريني
ع اللي قتل ياسين
ليلي عيني
ع اللي قتل ياسين
قتلوه السود عينيا يابوي
من فوق ضهر الهجين
ليلي عيني
من فوق ضهر الهجين
ده بهية في المحاكم
شدت واحد وكيل
ليلي عيني
شدت واحد وكيل
وياسين سايح في دمه يابويا
خايف منه الحكيم
ليلي عيني
خايف منه الحكيم
احكم بالعدل يا قاضي
قدامك مظاليم
ليلي عيني
قدامك مظاليم
عوج الطربوش على ناحية يابويا
وحكم بأربع سنين
ليلي عيني
وحكم بأربع سنين
سنتين في السجن العالي
واتنين في الزنازين
ليلي عيني
واتنين في الزنازين
ولا تظهر هذه الأغنية التي تعود إلى قرون مضت، من هو الذي حكم عليه بأربع سنوات، لكن الوعي الجمعي المصري يفترض أن المحكوم هو ياسين القتيل، الـ"سائح" في دمه، ويرفض علاجه الحكيم، أي الطبيب، خوفًا من دمه، ويحكم عليه القاضي وهو القتيل المظلوم.
قصة ياسين وبهية المأسوية، تتجسّد دوماً، وتعاد ثم تعاد، قصة مصرية، لا يمكن أن نقول إنها تبعث لإنها لا تموت.
كتب الله عليّ أن أعيش قصصاً عدّة، لأكثر من ياسين واحد، وأكثر من بهية واحدة. سأروي قصصهم تباعاً.
ياسين وبهية اليوم، هما أحمد دومة ونورهان حفظي.
أعرف دومة منذ سنوات مللت من عدّها، ظل طوال هذه السنوات تربطه بنورهان قصة حب كانت أقوى من السجن والظلم. لم يتوان أحمد عن قولة الحق في وجه سلطان جائر، ولم يتردّد السلطان الجائر في سجن دومة والتنكيل به.
في عهد مبارك، ثم في عهد المجلس العسكري، حتى في عهد مرسي الذي لم يستقرّ على كرسي الحكم سوى خمس دقائق بعمر الشعوب، والآن في عهد السيسي.
قبل كل مرة يعتقل فيها أحمد، كان يبتسم لي ويقول: يالا بقى بنحضر للفرح، حتيجي لازم.
وقبل أن يبدأ في الإعداد للزفاف يتم القبض عليه ليقضي عقوبة قد تصل إلى سنة، أو أقل، أو أكثر، سئمت أيضاً من الحساب. ثم يخرج من السجن، ليبتسم لي ويقول: يالا بقى بنحضر للفرح.. أنت مش معزومة أنت صاحبة الفرح..
هكذا.. العام وراء العام، حتى قلت له مازحة: البنوتة دي لازم تاخد جايزة نوبل في الانتظار، هي ما زهقتش منك كل ده؟
لكن نورهان دائماً على العهد، دائماً ترفع لافتة: الحرية لأحمد دومة. في كل مرة أراها فيها كانت تبذل جهداً حثيثاً من أجل المطالبة بإطلاق سراح حبيبها.
سُجن في عهد مبارك، لتضامنه مع أهالي غزّة، وسُجن في عهد المجلس العسكري.. امممم.. والله ما فاكرة، أصل كتير، حافتكر إيه ولا إيه؟ على ما أظن، بتهمة ضرب العديد من العساكر والضباط وحرق مدرعات وتكسير دبابات.. وحاجة هيركليز خالص، وفي عهد الرئيس المعزول محمّد مرسي، كانت قضية دومة إهانة الرئيس، وحُبس في هذه القضية، ثم تم تلفيق قضية أخرى له، وشرفت بأن أكون أنا، وياسين آخر، ألا وهو علاء عبد الفتاح، معه في نفس القضية، والله لا أذكر تفاصيل القضية.. باين كنا متهمين بضرب 25 عسكرياً وحرق مدرعتين وحافلتين تابعتين لجماعة الأخوان، حاجة شمشون الجبار برضه كده. ولحُسن حظنا في ذاك الوقت أن قامت حركة 30 يونيو، وكان النظر في قضيتنا يوم 6 يوليو على ما أذكر، كنت وقتها حبلى بابنتي الأولى فاطمة الزهراء، حضرنا الجلسة، وكان دومة خلف القضبان بينما كنت أنا وعلاء في قاعة المحكمة، ولله الحمد، حكمت المحكمة ببراءتنا.
بمجرّد أن خرج دومة من القضية الأولى التي كانت "إهانة الرئيس محمّد مرسي" قلت له: بص.. أنت تاخد البنية دي تكتب عليها دلوقت، إنت ما حدش يضمنك.
لكن أحمد أصرّ على أن يقيم حفل زفاف يليق بانتظار بهية لياسين، وكنت وقتها أعاني من رهق الحمل فلم أتمكّن من حضور الزفاف. تنفّست الصعداء وقلت: أخيراااااا يا أحمد.
يبدو أنني تعجّلت في إبداء الارتياح، فلم يمر أسبوع واحد على زفاف ياسين وبهية حتى تم القبض على أحمد دومة الذي اتهم في ثلاث قضايا، سنذكر اثنيتن منها بداية، وستأتي الثالثة لاحقاً:
القضية الأولى: خرق قانون التظاهر وحُكِم عليه فيها بالسجن ثلاث سنوات.
القضية الثانية: حرق المجمع العلمي.
تم حبس أحمد دومة على ذمة قضية خرق قانون التظاهر، ثم تبيّن ألا أدلة ضد أحمد دومة على حرق المجمع العلمي، وأن مُقدّم البلاغ الذي اتهم فيه أحمد بحرق المجمع العلمي قد قدّم دليلاً وهو اسطوانة عليها كلام مُجتزأ لأحمد دومة يقول فيه بأنه حرق مجلس الشعب. إذن فالدليل ليس دليلاً، لذا فقد تم التأجيل في نظر القضية.
حين اقترب موعد خروج أحمد من حكم قانون التظاهر، تمّت محاكمته بحرق مجلس الشعب، الذي لم يتم حرقه بالأساس، وبني الحكم على الاسطوانة المقدمة، والتي كانت عبارة عن حوار بين أحمد دومة ووائل الإبراشي، حيث قال له أحد المتّصلين بالبرنامج: يا أستاذ أحمد أنت راجل محترم ما تحطش نفسك مع البلطجية اللّي حرقوا مجلس الشعب.
فأجابه أحمد: ما تقولش على الناس بلطجية، ناس بتضرب بالرصاص الحيّ، أقل حاجة يردّوا بالمولوتوف، ولا يردّوا بالورد؟
فقال له المتّصل: يعني أنت ممكن تعمل زي دول؟
فأجابه أحمد: إذا كان دفاع المتظاهرين عن نفسهم بتعتبروه جريمة أنا مجرم زيّهم وحرقت مجلس الشعب زيّهم.
إلى جانب شهادة أحد الشهود الذي قال بإن أحمد دومة طلب منه "جركن كاز"، وأنه رفض أن يعطيه الجركن خوفاً من أن يرتكب به حماقة.
بالرغم من أن مجلس الشعب لم يتم حرقه.
وبالرغم من أن شاهد الإثبات الوحيد لم يشاهد أحمد وهو يقوم بحرق لفافة تبغ، وكل ما قاله أنه رفض أن يعطيه الكاز الذي طلبه.
وبالرغم من شهادة الأستاذ وائل الإبراشي، مقدّم البرنامج، الذي اتّهم على إثره دومة بحرق مجلس الشعب اللا محروق، والتي قال فيها الأستاذ وائل أن حديث أحمد مُجتزأ من سياقه، وأنه لم يقصد الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، وإنما كان يتحدّث بشكل مجازي، وهذا أمر مفهوم من سياق الحلقة.
وبالرغم من أن حرق أية منشأة عامة أياً كانت لا تتجاوز عقوبته 15 سنة بحد أقصى.
إلا أنه حكم على أحمد بالسجن المؤبّد المشدّد لمدة 25 سنة. حين سمع أحمد الحكم صفّق، وعلى الفور قال له القاضي: بتصفّق على إيه؟ تلات سنين حبس لإهانة القضاء. فأصبح مجموع الأحكام ضد أحمد دومة: ثلاث سنوات لخرق قانون التظاهر، 25 سنة لحرق مجلس الشعب الذي لم يحترق، 3 سنوات لإهانة القضاء = 31 سنة، عدد سنوات تزيد عن عمر الشاب الغضّ وقت إصدار الحكم.
انتهت السنوات الثلاث الأولى والمتعلّقة بخرق قانون التظاهر، وقبل النقض في قضية إهانة القضاء ولم يتم البدء في إعادة المحاكمة، ونحن الآن في انتظار النظر في النقض في القضية الكبرى، ألا وهي حرق مجلس الشعب اللا محروق، والتي وصلت عقوبتها للمؤبّد. نحن ننتظر، وبهية تتحرّق انتظاراً، هذه العروس التي لم تفرح يوماً، وهذا الشاب الذي لا يُعاقب على جريمة بخلاف نبله.
النظر في القضية سيكون في 12 أكتوبر الجاري، أي بعد أيام.
احكم بالعدل يا قاضي قدامك مظاليم.
ومحامينا هو الله