أيتام العدالة
لماذا اختار دونالد الإشارة لحقوق الإنسان بدلاً من اتباع أسلوبه المعهود في الصراحة الفجّة وتوضيح أنه يقطع هذه المعونة بسبب علاقات مصر مع كوريا الشمالية؟ الحقيقة لإن مصر لم ترتكب جريمة تخلّ بمواثيق الأمم المتحدة ولم تخترق الحصار الدولي الذي فرضه مجلس الأمن على كوريا الشمالية، على العكس تماماً، فقد سعت مصر إلى إدانة امتلاك أيّ طرف لأسلحة نووية بما في ذلك كوريا الشمالية، وصوّتت عدّة مرات على قرارات إدانة كوريا الشمالية بسبب امتلاكها لسلاح نووي.
في عدّة بيانات متتالية عبّرت الإدارة الأميركية عن قلقها بشأن سجّل حقوق الإنسان في مصر، ثم ادعت أنها منعت بعض الفتات من المعونة الأميركية وأجلّت البعض الآخر، بسبب ما تشهده مصر من انتهاكات لحقوق الإنسان.
الغريب أن هناك من الأبرياء من استبشروا بهذه الأخبار، خاصة من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
بداية، وقبل أن أشرح لماذا قامت إدارة ترامب بهذا التصرّف، أودّ أن أوضح أنني لا أرغب في هذه المعونة سيّئة السمعة، كمواطنة مصرية، لا أحب أن تتلقّى بلادي معونات من أحد، خاصة وإن كانت تتلقّى هذه المعونات في مقابل سلامها مع إسرائيل.
لكن ليسمح لي مَن استبشر بأخبار قطع وتأجيل جزء من المعونة أن أربّت على كتفه وأقول: كفاية عبط يا حبيبي.
هل هناك مَن يظنّ أن ترامب نام فرأى في المنام والده يرتدي ملابس بيضاء، وله أجنحة كبيرة، ويقول بصوت تتردّد أصداؤه في جوانحه: قوم يا دونالد.. قوم انقذ حقوق الإنسان في مصر واقطع المعونة! فاستيقظ دونالد، ومعه ضميره، مفزوعاً، وهرع إلى اجتماع إدارته بملابس النوم وهو يقول: لازم نوقف المعونة.. لازم نأجّل المعونة.. حقوق الإنسان يا ناس، حقوق الإنسان؟
في الواقع، كان دونالد ترامب منذ بداية حملته الانتخابية قد أوضح أنه لا يأبه البتّة لانتهاكات حقوق الإنسان في العالم طالما أنها بعيدة عن مواطنيه، كما قال أنه يعتقد بأن هناك شعوباً في هذا العالم قد لا يجدي معها سوى انتهاك حقوق الإنسان، وأن هدفه الرئيسي هو تحقيق مصالح الولايات المتحدة، وهذه تصريحات جميعها يعجبني. أحب أن أرى رئيس الولايات المتحدة وقد التزم بالصدق والصراحة في التعبير عن سياسات بلاده، حتى لا ينخدع الأبرياء ويتشبّثون بالحبال الذائبة.
أما عن صحوة حقوق الإنسان المصري التي حدثت فجأة للسيّد دونالد ترامب وإدارته، فلها تفسير واضح وباد للعيان، أتعجب من أنني مضطرة لتوضيحه.
إن لم يكن معروفاً على مستوى الشارع المصري، فمعروف لدى العالم أن مصر لديها صلات اقتصادية وتجارية قوية بكوريا الشمالية، يعود ذلك إلى فترة حكم السادات، عقب أن ساندت كوريا الشمالية موقف مصر في حرب 1973.
حدث اتفاق بعدها أن تبيع مصر بعض الصواريخ روسيّة الصنع لكوريا الشمالية في مقابل أن تقوم كوريا الشمالية بإمداد مصر بالتكنولوجيا العسكرية اللازمة. تطوّرت بعد ذلك العلاقات، وعقدت مصر اتفاقات عديدة اقتصادية وتجارية عديدة مع كوريا الشمالية.
فمصر مثلاّ، هي واحدة من ثلاث دول عربية لديها تمثيل دبلوماسي في كوريا الشمالية، وواحدة من خمس دول عربية تستضيف سفارة لكوريا الشمالية على أراضيها. هذا بخلاف التجارة الحربية. كما أن شركة أوراسكوم تليكوم المصرية هي التي أنشأت لكوريا الشمالية شركة المحمول الأولى والوحيدة. إلى جانب استيراد مصر لبعض البضائع الكورية. المعروف عالمياً، وإن لم يكن معروفاً لدى الشارع المصري، إن الاستثمارات المصرية في كوريا الشمالية هي الأكبر في ظل الحصار الذي تعاني منه كوريا الشمالية.
كما نعلم، هناك مناوشات تصل إلى حد المخاطرة بحرب عالمية ثالثة، تحدث بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، ومن مصلحة ترامب أن يعزل كوريا الشمالية ويقطع صلاتها مع أكبر وأهم دولة لديها استثمارات بداخلها، الأمر الذي دفع الحاج أبو دونالد إلى زيارة دونالد في المنام وتحميله أمانة حقوق الإنسان.
لماذا اختار دونالد الإشارة لحقوق الإنسان بدلاً من اتباع أسلوبه المعهود في الصراحة الفجّة وتوضيح أنه يقطع هذه المعونة بسبب علاقات مصر مع كوريا الشمالية؟
الحقيقة لإن مصر لم ترتكب جريمة تخلّ بمواثيق الأمم المتحدة ولم تخترق الحصار الدولي الذي فرضه مجلس الأمن على كوريا الشمالية، على العكس تماماً، فقد سعت مصر إلى إدانة امتلاك أيّ طرف لأسلحة نووية بما في ذلك كوريا الشمالية، وصوّتت عدّة مرات على قرارات إدانة كوريا الشمالية بسبب امتلاكها لسلاح نووي. الحق أحق أن يتبع، لست بالطبع من أنصار النظام المصري الحالي، ولا السابق، ولا السابق على السابق، ولا السابق على سابق السابق، ولا السابق على سابق السابق السابق، وأعارضهم جميعاً، لكن ضغوطاً ما الآن تمارس على مصر بدعوى حقوق الإنسان التي لم تأبه لها الولايات المتحدة بتاتاً على مرّ تاريخها، ولطالما استغلّتها مع الديمقراطية لنسف شعوب، وتدمير أمم، بل وتعريض الكوكب لخطر الاحتباس الحراري والتصحّر وتغيّر المناخ الذي يهدّد الإنسانية.
مصر ليست لديها علاقات مشبوهة مع كوريا الشمالية، هي علاقات تجارية واضحة، ربما لأن النظام المصري الحالي وكل سابقيه لم يعتادوا مصارحة الشعب بأيّ شيء، فقد لا تجد الكثير من المصريين على عِلم بهذا الخبر. هم عادة كده بيعاملونا معاملة مرات الأب.. ولا يطلعونا على شيء، بوصفنا زوائد بشرية. على أية حال، لنعد إلى الموضوع: اختار دونالد ترامب الإشارة إلى حقوق الإنسان، ولم يعلن السبب الرئيسي للتهديد بالمعونة، لأن الإشارة إلى حقوق الإنسان فيها تهديد آخر مبطن.
النظام المصري تورّط في انتهاكات مرة لحقوق الإنسان، وتمكّن من خلال فريقه الدبلوماسي من إسكات العالم عن هذه الانتهاكات، الأمر الذي دفع إدارة ترامب إلى تهديد النظام بما سعى دوماً لتجنّبه، أو بالعامية المصرية: لموا نفسكم بلاويكم كتير.
هنا تقع مصر في مأزق، خاصة في ظل اقتصادها الهشّ والضعيف: هل تضحّي مصر باستثمارات ومصالح مع واحدة من أهم الدول التي تتشارك معها تجارياً؟ أم تضحّي بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وما يستتبع ذلك من ملاحقات بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان قد تتّخذ ذريعة في إطار الضغط، وقطْع معونة يعتمد عليها النظام المصري وقت أن كان في أزهى عصوره الاقتصادية فما بالك وهو يعاني من تدهور في الاقتصاد؟
بالطبع، الإجابة معروفة، ولابدّ من أن نرى واقع الحال: دائماً ما ترجح كفّة الولايات المتحدة، لأنها الأقوى، ولأنها تفجر في الخصومة، وتنكّل بعدوها، أما كوريا الشمالية فليس لديها ما تهدّد مصر به سوى الخسارة المادية، وكما يقول المثل المصري: الشرشوحة ست جيرانها. وفي نهاية المطاف، ستضطر مصر إلى إعلان رسمي بقطع العلاقات مع كوريا الشمالية، وسحْب الاستثمارات المصرية، ما قد يتسبّب في أزمة اقتصادية جديدة، وخراب بيوت لرجال أعمال كثر، ولا نعلم كيف ستقوم الولايات المتحدة بتعويض مصر هذه الخسائر الفادحة؟ ربما يجري الآن التفاوض على هذه التعويضات؟ لا أعلم.
ما أعلمه جيّداً هو أنه، على المعارض الذي يخضع لانتهاكات حقوق الإنسان أن يتمتع بالنزاهة والتجرّد، فهذا مبعث معارضته لنظام ديكتاتوري، ماذا وإلا إذا كان لا يجد غضاضة في تسلّق المصالح الأميركية لتحقيق مكاسب سياسية ضدّ النظام، فلماذا يعارض النظام بالأساس؟ لماذا لا ينضم بسهولة ويُسر إلى جوقة التطبيل والنفاق، ويربح مكاسب سياسية ومالية واجتماعية وفنية أيضاً؟ لماذا تعرّض نفسك للحبس أو المنع من السفر ثم بالأخير تفرح بأن الولايات المتحدة، التي تسبّبت في أزمة تهدّد الجنس البشري بأكمله، تمارس ضغوطاً، وتستخدمك أنت يا ضحية الانتهاكات ويتيم العدالة، من أجل تحقيق مكاسب عسكرية تضرّ بها شعوباً أخرى؟
"وما كنت متخذ المُضلّين عضداً"
الولايات المتحدة الأميركية، مع المملكة المتحدة، تحولان دون إدانة المملكة العربية السعودية بتهمة جرائم الحرب عقب التسبّب في انتشار وباء الكوليرا في اليمن، بعد أن ضربت محطات تنقية المياه، فماذا عليها الآن تحّدثنا عن انتهاك حقوق الإنسان في مصر؟ وكيف لساذج أن يصدق هذه الادّعاءات؟ ثم إن هذا الساذج سيخرج كما نقول بالمصري: نقبه على شونة. وبمجرّد أن يعلن النظام المصري قطع العلاقات مع كوريا الشمالية سيطوح دونالد حقوق الإنسان المصري على طول ذراعه، وينسانا كما ينسى ضحايا اليمن الذين سفحت دماءهم حليفته العزيزة المملكة العربية السعودية.
مَن يرغب في معارضة نظامه السياسي فليعارضه من دون تدخّل أطراف أخرى، الله يستركم يعني.. انظروا حولكم وتأملوا مصير كل من استعان بقوة خارجية على نظام داخلي.