كردستان 2017 مهاباد 1946
لكن السؤال الذي يحاول المراقبون الظفر بإجابة شافية عنه، هل يمكن لدولة معلنة من جانب واحد في كردستان العراق أن تملك مقومات الحياة، إذا كانت على خصومة مع بغداد ومطوقة في الوقت ذاته بعقوبات اقتصادية وعسكرية من تركيا وإيران؟ وإذا كان الجواب المرجح هو بالنفي، فإن ذلك يقود إلى الإستنتاج بأن البارزاني ربما أخطأ في الحسابات العراقية الداخلية ولم يقدر التوازنات الإقليمية حق وزنها، فأتى ردل الفعل الإقليمي بهذه الحدة.
إذا كان البعض يعتبر أن من شبه المسلم به، أن القوى الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى، ولا سيما بريطانيا وفرنسا، اللتان أعادتا رسم خريطة الشرق الأوسط عقب الحرب العالمية الثانية، قد أجحفتا بحق الأكراد، فإن الجغرافيا التي يتوزع فيها الشعب الكردي، تجعل تصحيح التاريخ يكاد يكون مستحيلاً من دون توافق إقليمي.
وعليه أضحى الاستفتاء على استقلال كردستان العراق قفزة في المجهول، أو أشبه بعملية "انتحارية" قادها رئيس الإقليم مسعود البارزاني، الذي يرى أن اللحظة السياسية التي يعيشها العراق تسمح له بإعلان الطلاق البائن مع بغداد، أو التسلح على الأقل بورقة الاستقلال للضغط بها في أي حوار مستقبلي مع الحكومة المركزية، للانتقال من النظام الفيديرالي إلى النظام الكونفيديرالي، إلى أي الإنفصال الفعلي والدولة المستقلة.
لكن السؤال الذي يحاول المراقبون الظفر بإجابة شافية عنه، هل يمكن لدولة معلنة من جانب واحد في كردستان العراق أن تملك مقومات الحياة، إذا كانت على خصومة مع بغداد ومطوقة في الوقت ذاته بعقوبات اقتصادية وعسكرية من تركيا وإيران؟ وإذا كان الجواب المرجح هو بالنفي، فإن ذلك يقود إلى الإستنتاج بأن البارزاني ربما أخطأ في الحسابات العراقية الداخلية ولم يقدر التوازنات الإقليمية حق وزنها، فأتى ردل الفعل الإقليمي بهذه الحدة.
ومن المؤكد أن مسعود البارزاني لا بد له أن يكون قرأ تاريخ "جمهورية مهاباد" الكردية التي أعلنها مصطفى البارزاني وقاضي محمد في إيران عام 1946 ولم تعمر سوى 11 شهراً، التي انتهت بانسحاب القوات السوفياتية من الأراضي الإيرانية التي كانت توغلت فيها إبان الحرب العالمية الثانية. وبعد الإنسحاب سقطت "جمهورية مهاباد" وأعدمت السلطات الإيرانية قاضي محمد وفر مصطفى البارزاني من المنطقة.
وأمام هذه الخلاصة التاريخية، يبرز تساؤل آخر، هل راهن البارزاني على أن الحاجة الأميركية للأكراد في الحرب على "داعش" ستلعب دوراً مسهلاً في عملية الاستقلال من خلال ضغط تمارسه أميركا على تركيا وبغداد للإمتناع عن ردود متوترة على الإستفتاء. بيد أن واشنطن كانت أعلنت صراحة قبل أيام من الاستفتاء أنها ربما تكون غير قادرة على منع "المخاطر" التي قد تنجم عن خطوة المضي في هذه الخطوة. هذا علماً أن مسؤولين أميركيين سابقين أبرزهم بينهم جو بايدن نائب الرئيس الاميركي السابق باراك أوباما كانوا ينادون علناً بتقسيم العراق، معتبرين أن هذا الحل الأمثل لخروج هذا البلد من مشاكله الطائفية والعرقية التي تلت الغزو الأميركي.
ومع إنسداد الأفق الإقليمي أمام أستقلال كردستان العراق، لا يكفي التأييد الإسرائيلي لتشكيل رافعة لهذا الاستقلال. وترى تل أبيب أن تقسيم العراق لا بد وأن يؤدي إلى تقسيم سوريا ودول شرق أوسطية أخرى على أسس دينية وعرقية تكون إسرائيل "الدولة اليهودية" أقواها. وهذا هو مسوغ الدعم الإسرائيلي لقيام دولة مستقلة في كردستان. وما يجري في شمال العراق من وجهة النظر الإسرائيلية يشكل فاتحة لتقسيم كل دول المنطقة بما يقضي على أي بارقة أمل في إمكان قيام دول على أساس المواطنية أو دولة تملك مقومات الصمود في مواجهة الدولة العبرية وتفوقها النوعي عسكرياً واقتصادياً. وهذا هو الدور الوظيفي الذي تريده إسرائيل من إنشاء دولة مستقلة للأكراد تكون على عداء مع بغداد ودمشق وطهران وأنقرة.
ومنذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 والمنطقة العربية والإقليم يعيشان في تحولات كبرى تصب كلها في خدمة إسرائيل، وأتى "الربيع العربي" بالجهاديين ليشكلوا حلقة أخرى من حلقات التدمير الشامل للعالم العربي ولا سيما للدول المحيطة بإسرائيل. وما يجري في كردستان العراق يعتبر تتويجاً للتحولات الكبرى التي تعيشها المنطقة منذ 2003 وصولاً إلى الحرب السورية.
ومهما كانت الرهانات التي دفعت بالبارزاني إلى الرقص على حافة الهاوية، وبينها أن اللحظة السياسة الراهنة لن تسنح للأكراد قبل مئة عام أخرى، فإن دفع الشعب الكردي كي يكون ضحية لعبة الأمم مرة أخرى، له أثمانه الباهظة وليست بهذه الطريقة يحقق البارزاني هدفه المعلن في انتشال أكراد العراق من "مآسي الماضي".