ما الذي ينتظر إدلب؟

تمركزت الأزمة السورية منذ بعض الوقت حول سؤال: ما الذي ينتظر إدلب؟ ولم يُغيّر من ذلك كثيراً تركيز الجهد العسكري واتّجاه المعارك نحو الشرق، بفكّ الحِصار عن دير الزور، أو نحو الغرب بتفكيك جيوب داعش والنصرة في جرود شرق لبنان؛ كما أن الحديث عن إدراج إدلب في خطط "خفْض التوتّر" لم يتأثّر كثيراً بسيطرة جبهة النصرة على المدينة، وهذا من الأمور الُملتبسة في الأزمة السورية، ولربما تأّثر الموقف بميْل الحلفاء للتسويات، باعتبار أن الحرب ليست هدفاً بذاتها.

تُعبرّ الخريطة عن تقديرات وتسميات تركية، وحتى الآن لا توجد خرائط تُعبرّ عن تقديرات الأطراف الأخرى، المصدر

أخذت تركيا وقتاً طويلاً، لتتدبَّر السُبلَ المناسبة لـ"حل" الأزمة في إدلب، وقد أظهرت روسيا وإيران، تفهّماً لهواجسها بهذا الخصوص، وحرصتا على تفادي إحراجها علناً، أما المسكوت عنه في كل ذلك، فكان: إذا لم تقم أنقرة بما يلزم تجاه إدلب، فإن الحلفاء جاهزون، ولن تكون المهمة فيها أصعب منها في دير الزور أو حلب، وخاصة أن لدى الحلفاء قوة دفْع كبيرة، واستعداداً غير مسبوق للحسم في قضايا كان التردّد تجاهها هو سيّد الأحكام.

تقرّر في أستانة (14و15 أيلول/سبتمبر الجاري) إدراج إدلب، وأجزاء صغيرة من أرياف حمص وحماه واللاذقية، في مناطق خفْض التوتّر، وتوقيع الوثائق الأربع حول نشْر مراقبين وتشكيل لجنة مُشتركة من روسيا وإيران وتركيا، و"قواعد استخدام القوة، وقواعد الإجراءات". وتحدّث المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، عن أن عدد المراقبين قد يصل إلى 1500 مراقب من روسيا وإيران وتركيا، أي 500 لكل منها، وثمة تقديرات بأن يشارك في ما بعد مراقبون من الصين ومصر والعراق ولبنان.

الاتفاق حول إدلب هو حسب بيان أستانة "إجراء مؤقّت" مدته ستة أشهر، يمكن تمديده "تلقائياً بإجماع الدول الضامِنة"، وأن نشر القوات سوف يتم "وفقاً للخرائط المتّفق عليها في أنقرة في 8 أيلول/سبتمبر". وهناك حديث عن أن الخرائط المذكورة تُميّز بين مناطق التمركز الكثيف لجبهة النصرة وحلفائها، ومناطق وجود وسيطرة الجماعات المسلحة غير المصنّفة إرهابية، مثل حركة أحرار الشام، وهي مناطق مُتداخِلة إلى حدٍ كبير، بالإضافة إلى مناطق ذات وجود مسلّح ضعيف نسبياً.

وأما خرائط السيطرة المزمعة أو المتّفق عليها فهي، حسب تقديرات وحدة أبحاث تركية، عبارة عن ثلاث مناطق، على النحو التالي:

  • منطقة روسية، وتقع شرق خط سكة قطار دمشق-حلب، سوف يُطلب من الجماعات المسلحة "غير المصنّفة إرهابية" مُغادرتها، وتقوم روسيا باستهداف "جبهة النصرة" والجماعات الموالية لها فيها.
  • منطقة روسية-تركية، وتقع ما بين خط سكة الحديد والطريق الدولي/أوتستراد حلب-دمشق، وهي منطقة تمركز وسيطرة كثيفة لجبهة النصرة، ويُطلب للناس والجماعات المسلحة "غير المصنّفة إرهابية" مُغادرتها. والأولوية بالنسبة لتركيا هي التوصّل بالمفاوضات مع جبهة النصرة إلى "مخرج" مُناسب، أو مواجهة عسكرية تُجبرها على قبول تسوية.
  • منطقة سيطرة تركية، وتقع غرب طريق دمشق-حلب وصولاً إلى الحدود مع لواء إسكندرون المحتل ومحافظة اللاذقية، وفيها سيطرة مختلطة للجماعات المسلحة، ولو أن أكثرها جماعات موالية لتركيا، ويمكنها تدبّر الأمر معها، ولتركيا أغراض كردية في تلك المنطقة لأنها تحاذي مناطق سيطرة القوات الكردية في الشمال.

أخذت تركيا أمر "جبهة النصرة" على عاتقها، وقد استبقت اجتماعات أستانة بإعطاء تعليمات للجماعات المسلحة مثل "حركة نور الدين الزنكي" بفكّ تحالفاها مع جبهة النصرة، وأعطت إشارات بإمكان تشكيل تحالف جديد من الجماعات المسلّحة الموالية لها بهدف احتواء النصرة، ولوّحت بعملية عسكرية ضدّها. ولكنها لم تقطع معها، وحاولت إقناعها بضرورة الاستجابة بكيفية ما لضغوط اتفاق أستانة، وتجنيب "الإمارة" مصيراً قاتماً.

من غير المعلوم طبيعة الالتزامات والآجال الزمنية والعملية التي قدّمتها تركيا للحلفاء حول اتفاق التهدئة في إدلب، إلا أن بيان أستانة تضمّن نقاطاً ذات دلالة بهذا الخصوص، من قبيل أن الاتفاق حول إدلب هو "إجراء مؤقّت"، وأنه لن يحول دون محاربة جبهة النصرة وأية جماعات مُرتبطة بها "داخل مناطق خفْض التوتّر وخارجها".

أما وقد  أصبحت إدلب منطقة "خفْض التوتّر"، فإنها تنتظر التعاطي مع مجموعة من التحديات ذات الوزن الثقيل:

  • التزام تركيا وحلفائها بالاتفاق، وفي مقدّمهم "جبهة النصرة" و"الحزب الإسلامي التركستاني"، الذي من المفترض بتركيا أن تتدبّر أمر تفكيك وجودهما في المدينة وريفها، بما يعنيه ذلك من تمكين تركيا من إدخال قواتها ومُقاتلين موالين لها، قد يصل عديدها إلى 25 ألفاً إلى مناطق مختلفة من إدلب، بعُمق قد يصل إلى 35 ألف كم، ما يعنيه ذلك من مواجهات مُحتمَلة، مع مجموعات رافِضة للاتفاق.
  • عدم القيام بما من شأنه أن يُهدّد الاتفاق، مثل عمليات التسلّح والتنظيم، أو تشكيل تنظيمات مموّهة موالية لـ النصرة. وهذا أمر مُحتمَل، نظراً لتمسّك تركيا بجبهة النصرة كبديل يمكن التعويل عليه إذا ما شهدت توافقاتها الروسية والإيرانية أية انتكاسات في المستقبل.
  • ضرورة الفصْل الواضح في خرائط السيطرة بين "جبهة النصرة" وحلفائها وبين الجماعات الأخرى "غير المصنّفة إرهابية"، وعدم التغطية على الجماعات المصنّفة إرهابية تحت أي عنوان.
  • الإفادة من التسهيلات والمزايا التي تقدّمها اتفاقات خفْض التوتّر الأخرى، مثل وقف العمليات العسكرية، وفتح الطرق للنقل والانتقال، والاتّصال، والإمدادات الإنسانية، وإقامة بنى إدارة محلية.
  • تحدّي احتمال قيام تركيا أو الموالين لها بما من شأنه أن يعزّز تمركزاً مديداً أو مطامع جغرافية أو إثنية يمكن أن يمثّل تهديداً لوحدة وسلامة أراضي سوريا.
  • تحدّي قيام تركيا أو الموالين لها بما من شأنه أن يجعل من إدلب منطقة "سلطة بديلة"، مثل نقل مؤسّسات "حكومة الائتلاف" أو الإعداد لبنى مسلحة تحت إسم "جيش وطني".
  • يُمثّل توقّف العمليات العسكرية مصدر تهديد للجماعات المسلّحة، ومن بينها "جبهة النصرة"، إذ يسدّ الذرائع أمام عمليات التحشيد والتسلّح، ويخفّف من عوامل جذب المقاتلين والتمويل من الخارج والداخل.
  • يُمثّل توقّف القتال والشروع بالتسويات عامل "إجهاد" للجماعات المسلحة، لأنه يضطرها لتغيير النمط، وتكييف الدور، ما يعني التراجُع النسبي لـ العصبية المُؤسسِّة والُمسانِدة لتلك الجماعات، وضعف قدرتها على تأمين الموارد.

ما لم تحدث اختراقات أو تطوّرات استثنائية، فإن الأمور تتّجه بإدلب إلى مرحلة بالغة الحَرَج والخطورة، ليس مع المجال والمحيط، أي الجيش السوري وحلفائه، والقوات الكردية، بقدر ما هي مع داخل المدينة أو "الإمارة"، وكذلك علاقتها مع حليفها الرئيس تركيا، في أمور مثل: تواصل عمليات الحل والترحال أو الانتقال بين الجماعات المسلّحة، بما يرافق ذلك من تدخّلات تركية ومواجهات مُحتملَة في ما بينها. ودينامية الهيمنة التركية على مَن يُسيطر على المدينة ومحيطها.

لعلّ التحدّي الأهمّ في ما يتنظر  إدلب هو حُسن تنفيذ الاتفاق، والمدى الزمني الذي سوف يتطلّبه تطبيقه، وخاصة أن مسار اتفاقات التهدئة الأخرى يسير بوتيرة جيّدة نسبياً، ومثله مسار استعادة السيطرة والتي زادت حسب تقديرات الحلفاء عن 85 بالمئة من مساحة سوريا، إذ إن عين دمشق موسكو وطهران وحزب الله تُراقب ما يجري، وبدائلهم جاهزة أيضاً، وأنقرة اليوم ليست في أحسن حالاتها، وليس من مصلحتها أن تشهد علاقتها مع موسكو وطهران أية انتكاسة.