أنا خائِفة
الأسعار في مصر تزيد بمعدل يومي، من دون أية مبالغة. ولم يرد أن الإنسان تحمل الجوع في أي حقبة من تاريخه، اللّهم إلا الثوار وأتباع الأنبياء. والثورة فشلت، والأنبياء انقطعوا، ولم يعد أمام الناس سوى مواجهة سيف المعزّ وتجويعه، فلن يجرؤوا مرة أخرى، وبعد مذبحة مروّعة غرست في اللا وعي الجمعي، على المطالبة بحقوقهم عبر التظاهر.
منذ أيام، تعرّضت صديقتي، التي تعاني من ضائقة مالية، شأنها في ذلك شأن جلّ الطبقة المتوسّطة في مصر، إلى حادث سرقة منزلية. يبدو أن السارق شخص غير مُحترِف، فقد دخل عليها منزلها وهي مُستيقظة هي وزوجها، وحين وجدته في غرفة نومها سألته: أنت مين وبتعمل هنا إيه؟
لكن السارق لم يقم بردّ الفعل الطبيعي المتوقّع، فقد ظلّ صامتاً ينظر إليها، كرّرت عليه السؤال وهو صامت. وبما أن ردّ فعله غير متوقّع بالمرّة من لص، فقفز إلى ذهنها أنه قد يكون جنيّاً، فشرعت في قراءة آية الكرسي لتصرفه – نعم هذا حدث واقعاً – لكن اللص العجيب لم ينتهز فرصة ارتباك السيّدة الوحيدة النحيلة القصيرة ويوهمها مثلاً أنه جنيّ بالفعل ليكمل سرقته ويخرج من المنزل، لكنه شعر بوخز الضمير على إثر سماع القرآن، فقال لها: هسسسسسسسس. حتى تصمت ولا تقرأ له قرآنا يوبّخه على فعلته! في هذه اللحظة أدركت أنها أمام لصّ فصرخت: حرامي حرامي.. فقفز من النافذة، وحتى الآن لا أحد يعلم لماذا لم يقفز من النافذة قبل ذلك إن كان هذا بإمكانه. صرخت من النافذة مستغيثة بالمارة فركضوا خلف اللص الذي ألقى المسروقات، وقبضوا عليه فاعترف بالسرقة وبمكان المسروقات التي لم تتجاوز خمسين جنيهاً مصرياً فقط لا غير وبعض الذهب الذي لا تزيد قيمته عن ألف جنيه مصري. خمسون جنيهاً تعادل ثلاثة دولارات. وألف جنيه تعادل حوالى 56 دولاراً. هذا ما جازف السارق بحياته ليسطو عليه.
بعدها بأيام معدودة، سمعنا عن غرفة حارس عقار تم كسرها في صبيحة عيد الأضحى في منطقتنا، وسرقة ما فيها. ولا حاجة بي إلى سرد ما يمكن أن يكون موجوداً في غرفة حارس عقار. بعدها بيومين وجدت سيارتي مفتوحة وقد قام أحد اللصوص بسرقة فلاشة (كارت الذاكرة المتنقل) لا يصل ثمنه إلى 100 جنيه، أي ما يعادل ستة دولارات تقريباً، ثم علمنا أن أحد اللصوص قام بكسر مرآة سيارة لأحد الجيران وسرقتها، وهي لا تتجاوز ما قيمته عشرة دولارات.
هذا ما يحدث في محيطي بخلاف ما نسمعه ونقرأه عن سرقات تحدث لأشخاص يبدون تعجّبهم من فرط "دناءة" اللصوص الذين يبذلون جهدا ليسرقوا مالاً يكفي قوت أسبوع واحد.
كما يبدو مما رويت، فإن اللصوص الذين يقومون بهذه السرقات ليسوا محترفي سرقة، بقول آخر وباللهجة العامية: المهنة لمّت.
هؤلاء ليسوا لصوصاً.
هم مواطنون فقراء، يعملون في مهن بسيطة، ويكسبون قوتهم يوماً بيوم، لكنهم لم يعودوا قادرين على العيش. لم تعد الطبقة المتوسّطة قادرة على العيش بكرامة، أصبح الكثير من الأسر المتوسّطة، بل وفوق المتوسّطة، تكمل نفقات شهرها بالدين، أو ببيع بعض المصوغات، نظراً لأنه لم يعد لدى أحد القدرة على التسليف. فإذا كان هو حال الطبقة المتوسّطة، فلك أن تتخيّل حال الطبقة الفقيرة، التي تعيش بالأساس على فضول الطبقة المتوسّطة وأحياناً صدقاتها.
بالطبع لن يذهب الفقراء إلى مجمّعات الأغنياء السكنية، لإنها مؤمّنة بالحراسة والكلاب والأسوار. لن يجدوا أمامهم سوى من اعتادوا على رؤيتهم والتجاور معهم، وسيذهبون لسرقتهم، فلن يجدوا سوى خمسين جنيهاً وفلاشة.
أمر بائس.
لكنه مُخيف.
الأسعار في مصر تزيد بمعدل يومي، من دون أية مبالغة. ولم يرد أن الإنسان تحمل الجوع في أي حقبة من تاريخه، اللّهم إلا الثوار وأتباع الأنبياء. والثورة فشلت، والأنبياء انقطعوا، ولم يعد أمام الناس سوى مواجهة سيف المعزّ وتجويعه، فلن يجرؤوا مرة أخرى، وبعد مذبحة مروّعة غرست في اللا وعي الجمعي، على المطالبة بحقوقهم عبر التظاهر مثلاً، هم يخافون القتل، ويهابون الحبس، ويعملون أن غداً ليس أفضل، و"أسوأ الأيام لم تأت بعد" مع الاعتذار لناظم حكمت، لذا، فقد تمكّن منهم اليأس، وقرّروا أن يسرقوا قوت يومهم ما هو آت ليس خيراً.
نحن الآن نخاف على أبنائنا من الخطف لأننا لا نملك غيرهم، فلم يعد لدينا مدّخرات يمكن سرقتها.
أما عن السارق الذي اقتحم بيت صديقتي، فهي لم ترغب في أن تؤذيه، ورفضت أن تشهد ضدّه، وحين عُرِض على النيابة طفقت تبكي بمرارة وتمتم: ليتني أستطيع الذهاب لإطلاق سراحه.
أنا حقيقة خائفة من المستقبل، ولا أعلم إلى أين ستنتهي هذه المأساة الملهاة.
ليس لها من دون الله كاشفة.