عن هجرة يهود لبنان إلى فلسطين واختراق وعينا
تعتمد تقنيات اختراق الوعي وتدميره على إخفاء المعلومات المُحيطة بالأحداث و/أو تزويرها و/أو تشويهها. في كتابها وادي أبو جميل: قصص عن يهود بيروت، الصادر عن دار النهار عام 2010 (ص 14- 15)، تقول الكاتبة ندى عبد الصمد: "غالبية القصص في هذا الكتاب تتوقّف عند الرحيل، من دون أن تكمل لتروي ما حلّ بهؤلاء منذ لحظة رحيلهم". أي أن الكاتبة تتعمّد سلفاً وضعنا في هذه الحلقة المليئة بالثغرات والنواقص والمواقف السياسية المُكثّفة. بكلمات أخرى تقول الكاتبة: إن أوضاع يهود لبنان (واليهود العرب عامة) قبل النكبة ودورهم في المشروع الصهيوني يجب ألا يهم أحداً بالمرّة.
تُعتبر عملية اختراق الوعي عملاً عدوانياً بامتياز، لأنها تهدف إلى تدمير الوعي والوجدان وتحويلهما إلى حطام كي يستقبلا كل ما يأتيهما بما فيه ذلك الذي يمارس عملية التدمير. أي قبول رواية القوي بالكامل، من دون أن تكون لديه -أي لدى وعي المُدمَر ووجدانه- القدرة حتى على التساؤل البسيط.
تعتمد تقنيات اختراق الوعي وتدميره على إخفاء المعلومات المُحيطة بالأحداث و/أو تزويرها و/أو تشويهها. في كتابها وادي أبو جميل: قصص عن يهود بيروت، الصادر عن دار النهار عام 2010 (ص 14- 15)، تقول الكاتبة ندى عبد الصمد: "غالبية القصص في هذا الكتاب تتوقّف عند الرحيل، من دون أن تكمل لتروي ما حلّ بهؤلاء منذ لحظة رحيلهم". أي أن الكاتبة تتعمّد سلفاً وضعنا في هذه الحلقة المليئة بالثغرات والنواقص والمواقف السياسية المُكثّفة. بكلمات أخرى تقول الكاتبة: إن أوضاع يهود لبنان (واليهود العرب عامة) قبل النكبة ودورهم في المشروع الصهيوني يجب ألا يهم أحداً بالمرّة. فهم أناس مساكين اضطروا إلى الرحيل عن بلادهم بفعل أمور لا نعرفها بدقّة. ولا دخل للصهيونية وكيانها بتحوّلهم إلى مُعادين لمجتمعهم العربي الذي عاشوا فيه قروناً عديدة! وبما أن الكتاب يتطرّق إلى اليهود الذين احتلوا بلادنا وتسبّبوا بنكبتنا واحتجزوا تطورنا ويطاردوننا في كل مكان على وجه الأرض، لذا لا بدّ من العودة إلى التاريخ عبر الوثائق والدراسات لسبْر غور "رحيل" يهود لبنان والنظر في قضية استجلاب كافة يهود العالمين العربي والإسلامي إلى فلسطين وفهم إسهامهم في المشروع الصهيوني.
يعتقد عبد الوهاب المسيري (1938- 2008) أن اليهود كانوا ضمن المجموعات الوظيفية التي أنتجها الاستعمار في الدولة العثمانية وتحديداً أثناء فترات ضعفها المعروفة بفترة التنظيمات. وبالتالي أصبحت هذه المجموعات خنجراً في خاصرة الدولة العثمانية والمجتمعات المحلية، لأن ولاءها أصبح لغير النظام الوطني وأبناء الوطن.
وبما أننا نتحدّث عن اليهود فقد أوكلت مهمة إنتاج اليهود كمجموعة وظيفية إلى أطر كثيرة وأهمها شبكة "مدارس الإليانس" و"نوادي مكابي"، وبالرغم من أهمية هذه الأطر في المشروع الصهيوني وترحيل يهود لبنان، إلا أن الكاتبة تحجم عن تعريفها. لذا سنقوم باستنطاق المسيري لتعريفهما. يقول المسيري عن "الإليانس": بأنها شبكة مدارس غربية في العالمين العربي والإسلامي كانت تدرّس طلبتها وفقاً للمناهج الفرنسية وباللغة الفرنسية ولغات أوروبية أخرى من دون أن تهتم بتدريس اللغة العربية، "ما أدّى إلى صبغ معظم أعضاء الجماعة اليهودية بصبغة غربية فرنسية فاقعة، وإلى عزلهم عن بني أوطانهم وتهميشهم من الناحية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وقد اكتسبت شريحة كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية الثقافة الغربية في مدارس الأليانس، واعتمدت عليهم سلطات الاحتلال البريطانية للخدمة في إدارتها الجديدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى".
وأما عن "نوادي مكابي" فيقول المسيري: "في العشرينات قامت الوكالة اليهودية بتكوين شبكة جاسوسية في العالم العربي، حيث لجأت إلى استخدام المؤسّسات والمنظمات اليهودية الشرعية (مثل نوادي المكابي) كواجهات تخفي عبرها نشاطها المُعادي وغير الشرعي".
وبالنسبة لجمعية "قطرة الحليب"، تزعم الكاتبة أنها تأسّست بمبادرة من "نساء الطائفة من العائلات الغنية بغرض تأمين مواد غذائية للعائلات المُحتاجة" (ص 12- 13)، وهي، كما هو معروف، منظمة صحية صهيونية أسّسها الصهاينة في بداية العشرينات من القرن الماضي ولا تزال تعمل إلى الآن في مجال رعاية الأم والطفل.
وفي سياق النشاط الصهيوني في لبنان نقول: كان لهذا النشاط بيئة حاضنة وداعِمة أو لا مبالية في المجتمع اللبناني، ألا وهو دعم الكنيسة المارونية التي أشار إليها الباحث أسعد أبو خليل وآخرون أكثر من مرّة. وللتدليل إلى ذلك نقتبس هذا الخبر من صحيفة مرآة الشرق الصادرة في الثاني من شهر شباط 1935 بعنوان الصهيونية في لبنان- بيروت: "روت الصحف التصريحات الآتية وقد أفضى بها غبطة بطريرك الموارنة عن تعاون اللبنانيين واليهود ، قال أنني أؤيّد التعاون مع الصهيونيين لأنهم سوف يأتوننا بشيئين نحن مسيس الحاجة إليها وهما الرأسمال والملكة الفنيّة أنا نفسي أدخلتهم في مشروع شكا للإسمنت، فبعتهم حصّتي ثلاثة آلاف سهم ثم اشتروا من بنك سويسرا 12 ألف سهم ، ودخول رؤوس أموال الصهيونية إلى لبنان من شأنه ترقية الصناعة وارتفاع أثمان الأراضي وتخفيف وطأة الأزمة" (نصّ الخبر كما ورد في المصدر). أما البطريك المذكور فهو أنطون عريضة (1863- 1955) الذي ترأّس الكنيسة في الأعوام (1932- 1955). وتندرج زيارة البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي إلـى "إسرائيل" في 24- 26 أيار 2014 وتصريحه ضد حزب الله في التاسع من شهر آذار 2017 في سياق التعاون الماروني- الصهيوني.
وعن استجلاب اليهود العرب بالقوة من أوطانهم يشهد "شلومو هليل" المولود في بغداد عام 1923 ولا يزال حيّاً في كتابه رياح شرقية (1985) ، أنه قام بمهمة سرّية إلى البلاد العربية وقام بتفجير دور العبادة والمراكز اليهودية الأخرى وإلصاق التهمة بالعرب في ما بعد كي يوحي لليهود العراقيين أن وطنهم بات غير آمن وعليهم مغادرة البلاد فوراً. وكذلك (فضيحة لافون عام 1954- 1955) في مصر الشبيهة بما فعله "هليل". ولا تزال بعض الصفحات من سجّل الاستجلاب مطويّة. يبقى السؤال المطروح هنا: لماذا لم تأتِ الكاتبة بمثل هذه المقدّمة؟ فلو أوردت الكاتبة مقدّمة تشرح فيها هذه الأحداث، لاستقبل القرّاء كتابها بفهم ووعي وإدراك مختلف.
يحتوي كتاب عبد الصمد على 23 قصة سأختار منها خمساً للإشارة إلى ما أقوله:
القصة الأولى- سليم مزراحي وماري السمن: تتحدّث هذه القصة عن الشاب اليهودي العراقي الشيوعي سليم مزراحي الذي "[...] هرب من الاضطهاد الذي لحق باليهود بعد النكبة". "هرب" سليم إلى لبنان وهناك تعرّف على فتاة لبنانية مسيحية وتزوّجها. ضاقت بهما السبل بعد عدوان عام 1967 لذا نصحه "حاخام" الطائفة بالهجرة إلى "إسرائيل". أما ماري فقد قلقت على مصير زواج بناتها، لذا وافقت هي الأخرى على الهجرة إلى فلسطين: "إسرائيل" عام 1967 (ص 17- 54).
وبما أننا نتحدّث عن هجرة مستعمرين إلى وطننا، فلا بدّ لنا من أن نطرح بعض الأسئلة الهامة: كيف يمكن لشيوعي أن يتحوّل فجأة إلى أداة في مشروع استعماري كولونيالي؟ ألم يكن بإمكانهما الهجرة إلى بلاد الله الواسعة كغيرهما!؟ أنَّى لنا أن نصدّق أن ماري المسيحية التي تزوّجت يهودياً قلقت على زواج بناتها بحجّة أن غير اليهود لن يتزوّجوا منهن!؟ وما هي الظروف التي أحاطت بهجرتهما؟ وماذا كان دورهما في المشروع الصهيوني في فلسطين؟
القصة الثانية- تتضمّن ثلاث روايات عن "جواسيس": تنقل الكاتبة رواية اللبنانية سلمى التي تقص قصصاً حول ثلاثة جواسيس يهود وهم: نهى ب، وخواجة روبين وشيلا (ص 82- 109). الكاتبة التي لا تريد لنا أن نقبل بصدق روايات سلمى تجعل منها امرأة ثرثارة وغير أمينة في قصصها. بالطبع، قد تكون السيّدة سلمى ثرثارة وقد تكون قد بهرّت القصص بعض الشيء، لكن جعلها غير أمينة بالمرّة هو أمرٌ مُثير للريبة. لأننا بتنا نعلم أن الصهيونية قد جنّدت مئات الآلاف في مشروعها الاستعماري ومنهم مَن تورّط في الجاسوسية، لذا ما الضير لو تفكرّ ملياً بصدق قصص سلمى؟ نذكر قصة منها: مات في نهاية شهر كانون الأول 2016 "شاؤول بقاعي" الذي هاجر من حلب إلى فلسطين عام 1943 وانضم إلى عصابة الـ"بلماح" التي جنّدته جاسوساً وأرسلته إلى بيروت، وقام هناك بكل الأعمال القذرة من جمْع المعلومات وإرسالها إلى الكيان إلى تنفيذ عمليات القتل والاغتيال. "شاؤول بقاعي" المولود عام 1927 غيّر إسم عائلته وأصبح "شاؤول كَرملي" ("هآرتس": "المستعرب من البلماح الذي شرب القهوة مع القاوقجي"، 5. 1. 2017).
القصة الثالثة- أبو عمر سلمون من "قبضايات" بيروت- تتحدّث هذه القصة عن يهوديين: "يعقوب" وهو شاب هامشي يعمل على احتكار تذاكر السينما ثم يبيعها بسعر أعلى، و"سلمون" اليهودي المُثقّف الذي كان يعمل محرّراً في الإذاعة اللبنانية وفي يوم من الأيام قرّر الخواجا سلمون أن يهاجر إلى فلسطين من دون أن يخبر أصدقاءه (ص 124- 132) والسؤال هو: إذا كان الأمر كما ظهر في الرواية وكان سلمون موظفاً في الدولة لم يضطهده أحد، فما الذي دفعه ليهاجر بسرّية تامة؟ هل كان عميلاً للمخابرات استزرعته في الإذاعة الوطنية من أجل تمرير مخطّطاتها ثم رحّلته إلى فلسطين بعد أن انتهى دوره المُحدّد؟
في سياق هذه القصة نضيف ما ذكره الدكتور محمود محارب من جامعة القدس العربية حول دسّ الحركة الصهيونية 280 مقالاً تحابي مشروعها في الصحافة اللبنانية والسورية. يقول محارب إن الذي نظّم هذا المشروع وأداره هو إلياس (إلياهو) ساسون المولود في دمشق عام 1902 والمتوفّى عام 1978 في القدس والذي دسّ نفسه لسنوات عدّة كجاسوس في حركة القوميين العرب. قام ساسون بدسّ هذه المقالات على شكل مقالات رأي وتحليلات وتقارير صحفية بأسماء مستعارة في السنتين الأخيرتين من ثورة (1936- 1939) ، تحابي المشروع الصهيوني كي تُصبح مصدراً للقرّاء العرب ومُتّخذي القرار، وذلك حين كان رئيس الدائرة العربية في الوكالة اليهودية في الأعوام (1933- 1948)، وتحوّل بعدها إلى دبلوماسي. بناء على ما تقدّم نتساءل: ألا يمكن الاعتقاد أن سلمون كان واحداً من الذين يعملون على دسّ هذه المقالات!؟ وماذا فعل سلمون في فلسطين؟ هل عمل مترجماً لدى المخابرات؟ هل هو الذي كان يشطب بعض العبارات من الرسائل التي كان يرسلها العرب إلى بعضهم البعض؟ هل كان يمزّق بعضها؟ نقول هذا، لأن نسبة لا بأس بها من اليهود العرب كانوا الأداة التنفيذية بأيدي السلطة ومخابراتها للتجسّس علينا وقمعنا. وعمليّاً هم الذين أقاموا وحدات التجسّس والتحقيق وتعذيب الأسرى.
وفي هذا السياق نضيف أيضاً بأن المخابرات الصهيونية دسّت عملاءها بيننا، حتى أنها زرعت بعضهم كأئمة في المساجد! نعم، يتضّح الآن أنها زرعت عشرات اليهود العرب أئمة في مساجد القرى العربية في فلسطين. وهؤلاء لم يُكشف أمرهم إلا بعد وفاتهم ودفنهم في مقابر اليهود! كشف هذه القضية أبناء هؤلاء العملاء الذين طالبوا الدولة بتعويضهم نتيجة المُعاناة التي يعيشونها كونهم من أب يهودي وأم عربية وما يساورهم من تناقض وصراعات نفسية إضافة لتعقيدات زواجهم زواجاً دينياً يهوديّاً.
القصة الرابعة- مروان وأليغرا: بعد خلاف شديد مع الأهل تزوّج مروان الشاب المسلم مع إليغرا الفتاة اليهودية. ومن كثرة ضغوط إخوانها الذين هاجروا إلى البرازيل استجابت لطلبهم وبدأت تزورهم لمدة شهر في كل سنة. وفي إحدى زياراتها لهم قرّرت أليغرا الهجرة والبقاء هناك! إلا أنها استمرّت بمهاتفة مروان لكنها ظلّت ترفض إعطاءه رقم هاتفها كي لا يفتضح أمر زواجها من مسلم (ص 187- 196). في هذا السياق يبقى السؤال المطروح: بما أن أليغرا لم يضطهدها أحد، وزوجها مروان يعشقها إلى درجة الجنون، لماذا قرّرت الهجرة من دون علمه؟ هل كانت بمهمة ما وسافرت بعد إتمامها؟ وماذا فعلت في البرازيل وهل هاجرت في ما بعد إلى فلسطين؟
القصة الخامسة- وحيدة وادي أبو جميل: تتحدّث هذه القصة عن ليزا اليهودية الوحيدة التي بقيت في الحيّ (ص 259- 274). قصتها تثير التقدير والتعاطف معاً، التقدير كونها بقيت رغم كل الضغوط التي تعرّضت لها، والتعاطف لأنها امرأة عجوز لا يوجد مَن يرعاها لا مؤسّسات دولة ولا أقارب. والكاتبة التي لا تستهويها الطبقة التي تنتمي إليها ليزا، عمدت إلى وصفها بصورة منفرّة وكاريكاتورية قد تثير السخرية لدى أولئك غير الحسّاسين بمصائر الناس، والغضب لدى الحسّاسين منهم. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو: ما الذي يستدعي هذه السخرية من امرأة يهودية عجوز اختارت البقاء للعيش معنا رغم كل ضغوط الهجرة. هل كانت الكاتبة تفضّل لو أن ليزا اختارت كغيرها الذهاب مستعمرة إلى فلسطين كجزء من المشروع الصهيوني؟
هذا هو الكتاب الذي يضم 274 صفحة، وهو مثير إلى أبعد حدّ حين تتم قراءته في السياق التاريخي للصراع العربي- اليهودي، عندها ندرك دور المؤلّفة باختراق وعينا وحجْب تداعيات المشروع الصهيوني على أمتنا.