هيكل الذي لا يموت
قرن من الزمن إلا قليل ولم نشبع، كتاب تاريخنا الناطق طوى مقالته الأخيرة، رتّبها في جيبه ومضى بعيداً. كنا ننتظر المزيد من الأستاذ، المزيد من التاريخ، المزيد من الجغرافيا السياسية، المزيد من التحليل والتعميق والتحقيق.
يرحل الأستاذ تاركاً مكانه خالياً، فلا أحد اليوم على الإطلاق بإمكانه ملء الفراغ.
ربما يختلف كثر حول محمّد
حسنين هيكل، هو ليس محل إجماع كما كل شيء في عالمنا العربي، لكنه يبقى
"الهيكل" الذي لن تروم معرفة في شؤون المنطقة إلا وتجده إلى جانبك.
بعد أن
جاء الخبر قلبت في نسخة من كتاب له حول إيران حصلت عليه قبل أيام بعد طول بحث،
مدافع آية الله المُترجم إلى العربية، وفي المقدمة اعتذار من الأستاذ لقرّائه
العرب لكونه كتبه بالإنكليزية وغير قادر على ترجمته إلى العربية، "أشبه ما
تكون برجل يقدّم نفسه للناس بغير زيه المألوف، عمامة فوق بذلة، أو عقال فوق مايوه استحمام،
مثلاً، لكن هذه التجربة الغريبة بدت لا مفر منها." بدا صوته واضحاً في أذني،
لم أشعر قط بموته، فلكأنه في ما يكتبه يحلّ روحاً تحيا في كل قارئ. إنه الخلود
المعرفي، تناسل في الوجود بالفكر، بالكتابة، بالتسجيلات المصوّرة، بكل وسيلة دخلها
على مدى قرن من حياته، من زمن التلغراف إلى زمن تطبيق التلغرام على الهاتف
المحمول.
لصحافي
مثلي، الأستاذ شخصية مغرية، جاذبة، على كل الجدل الذي يُحيط به، هو شاهد زمن بكل
ما للكلمة من معنى، ومعشرالصحافة يعلمون أنك مع كل حدث تشهده تزداد معرفة، فكيف
برجلٍ شَهِد كل شيء تقريباً، من معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية إلى حرب
البسوس الجديدة في بلاد العرب، بين العرب أنفسهم، وبين العرب وإيران، وبين العرب
وإيران والغرب، وبين كل من بيده سلاح يأتي به من كل أرض تنطق بالشهادتين، عاش
الرجل النكبة والنكسة وحرب رمضان، شهد صعود إسرائيل وتقهقر العرب، ولاحقاً
صعود الحركات المقاوِمة في فلسطين ولبنان وقتالها وثباتها وإنجازها ضد إسرائيل،
جالَسَ الإمام الخميني ثائراً في فرنسا ومنتصراً في قم، عرف الملك فاروق ولاحقاً
كل رؤساء مصر، كان شريكاً حيناً في القرار وصديقاً، ولاحقاً خصماً ومعارضاً منتقداً،
عرف المكاتب الفارهة والمعتقلات المظلمة. بغض النّظر عن مكانه لكنه كان دوماً
مؤثراً، مسموعاً، مغيراً، لا فقط في السياسة والإعلام بل حتى في أسلوب الحياة المتّبع
لدى كثر ممن تأثروا به.
يرحل
الأستاذ تاركاً مكانه خالياً، فلا أحد اليوم على الإطلاق بإمكانه ملء الفراغ، هي
ليست مسألة مقدرة على الكتابة فكثر من يكتبون وكثر من لديهم القدرة على التحليل
والغوص في الأعماق، لكنه من الفرادة بمكان أن يكون هو "الهيكل" الذي كتب
في كل شيء تقريباً حول حاضر العرب، وعرفه جميع الزعماء عن قرب كما عرفهم، وبنى بين
جنبات رأسه مكتبة ضخمة لا من الكتب فحسب، إنما من الأحداث والتحولات التي لمسها
بيده ولعب دوراً ببعضها، ربما تلك الأوراق المخزونة في مكان ما ستكشف لاحقاً عن
الوجه الآخر للرجل الذي لطالما وصف نفسه بالجورنالجي، بينما هو في الحقيقة حبر
الصحافة العربية وقلمها وكتابها.
ينظر
أكبرنا وأصغرنا وأوسطنا إلى جنازة الأستاذ هيكل، إلى القنوات التي فتحت هواءها
للخبر الجلل، إلى وكالات العالم الإخبارية التي كتبت، إلى صحف الشرق والغرب، هل
بعد الآن سيموت صحافي ويكون في موته وحياته كما كان هيكل؟!