في سوريا صفحة سوداء انطوَتْ

الصفحة التي انطوت في الأزمة السورية تبرهن على فشل تركيا والسعودية ذريع. الفشل له ثمن في الارتدادات الطبيعية المنتظَرَة، لكن ثمن الفشل الباهظ أقل بما لا يُقاس من أثمان الهزيمة.

من معارك ريف حلب
المعارك الجارية على الحدود السورية مع تركيا، لم تقلب المعادلات الميدانية وحسب، إنما قلبت المعادلات السياسية في ترجيح كفة الجيش السوري وحلفائه. فالمراهنة على إسقاط النظام وتغيير موقع سوريا الاقليمي والجيوــ سياسي، قد انطوت صفحتها. ولا يعني هذا الأمر بالضرورة حسم مستقبل سوريا الذي يبدو متداخلاً في إعادة صياغة متغيرات المنطقة، بل يدل بوضوحٍ جلي على أن تحالف واشنطن لن يكون له في مصير سوريا شأن يتوخاه.

التهديد السعودي ــ التركي بعملية برّية أملاً بموطىئ قدم تمهيداً لتعزيز النفوذ، هو تعبير عن جموح الأماني والرغبات التي تفتقد القدرات. فالتدخل المنشود يفتقد التغطية الجوّية الضرورية لتدخّل جيش برّي، حينما تتوعّد موسكو بإسقاط أي طائرة تركية. أما تغطية الحلف الأطلسي الجوّية فهي متعذّرة وغير قابلة للتداول في المدى المنظور. فالحرب المباشرة بين روسيا وواشنطن في سوريا هو موضوع تندّر كما أبلغ جون كيري إحدى ناشطات المعارضة ممازحاً. لكن ليس التغطية الجوّية وحدها محرّمة على واشنطن، بل أيضاً تزويد الجماعات المسلّحة بصواريخ مضادة للطائرات محرّم للأسباب نفسها، حيث ساهم هذا السلاح بهزيمة الجيش السوفييتي في أفغانستان.

استراتيجية واشنطن في قواعد الاشتباك مع موسكو، تعتمد مساعي تضييق الخناق على الكرملين في أوكرانيا والبلطيق وأوروبا الشرقية، من دون القدرة على تدخّل برّي لم يجهز منه أكثر من خمسة آلاف جندي في إطار قوات الحلف الاطلسي للتدخل السريع. وفي الشرق الاوسط تعتمد استراتيجية واشنطن ــ الأطلسي على إدارة حروب بالوكالة من دون تدخّل جوّي وبرّي مباشر، ليس لها قدرة على تحمّل تبعاته في اليوم التالي. في هذا السياق تتحوّل العملية البرّية الافتراضية لجيش تركي ــ سعودي وغيره إلى عبء ثقيل أمام حماية جنوده ومدرّعاته على الأرض التي يمكن أن تتحوّل تحت قدميه إلى محرقة. فضلاً عن ذلك لا ينقص تركيا والسعودية مقاتلين جنود من الجماعات المسلّحة التي تدعمها بكل أوتيت، إنما يعوزهما تدخّل نوعي متكامل برّاً وجوّاً لمحاولة تغيير المعادلات الميدانية تحت تغطية الأطلسي الجوّية.

على هذا النحو يقف التهديد السعودي العالي النبرة، أمام عتبة ما يسميه عادل الجبير "عملية برّية للتحالف تحت قيادة واشنطن". لكن السعودية تراهن في حقيقة الأمر على كسب الوقت أملاً بتغيير استراتيجية واشنطن بعد أوباما. كما تراهن بموازاة ذلك على حلم شراء روسيا بما تظنّه السعودية مصالح نفطية ومالية، وفق ما يرشح عن تأجيل زيارة الملك السعودي إلى موسكو منتصف الشهر المقبل، وهو حلم يتباين فيه "التقريش" السعودي مع الاستراتيجيات الجيوــ سياسية الروسية. وفي هذا الصدد لا ريب أن المأزق التركي أشدّ هولاً من أزمة السعودية في التدخل البرّي المباشر، حيث طموح أردوغان يتقلّص إلى الأمل بالحفاظ على نفوذ للجماعات المسلّحة بين مارع وأعزاز، على الرغم من المكابرة اللفظية في الدعوة المستدامة لإقامة حديقة خلفية بعمق عشرة كلمترات.

تركيا والسعودية ذهبتا في سوريا إلى أقصى الحدّ، الذي يمكن أن يؤدي التراجع عنه إلى انكسارات داخلية قاسية. فتراجعهما عن تغيير موقع سوريا الإقليمي والجيوــ سياسي يحمل في طيّاته ارتدادات الأزمة السورية إلى الرياض وأنقرة، في اتجاه معادلات جديدة تفرض نفسها عاجلاً أم آجلاً في إعادة صياغة دول المنطقة (حدوداً وجغرافيا بشرية وتوازنات داخلية ودولية...). لكن الاستمرار بالجموح إلى أهداف عرقوبية باتت من ماضي الأزمة السورية، ربما يدفع الارتدادات أكثر عمقاً واتساعاً في تركيا على وجه الخصوص بداية. وما زال متاحاً لتركيا والسعودية، أقل فأقل، هو في حدود الممكن من المشاركة في التفاهم الروسي ــ الأميركي. وهو تفاهم يقتصر أساسه على السماح لتحالف واشنطن بمواجهة "داعش" والنصرة إلى جانب الجيش السوري وحلفائه، بموازاة الأخذ والرد في جنيف وغيره حتى تتكشّف موازين القوى الإقليمية والدولية في المنطقة. لكن معضلة السعودية وقطر هي أن البلدين يعتمدان في نفوذهما على جماعات ميدانية "معتدلة" لا يسهل عليها بمعظمها الغالب، نقل البندقية من كتف إلى كتف. والمعضلة الأخرى هي كأداء عضوية في العقل السياسي للحكم في البلدين، الذي يجدّ السعي في ضرب الحائط برأسه متوهماً النفاذ إلى طموحات تعاندها الوقائع العنيدة.

الصفحة التي انطوت في الأزمة السورية تبرهن على فشل تركيا والسعودية ذريع. الفشل له ثمن في الارتدادات الطبيعية المنتظَرَة، لكن ثمن الفشل الباهظ أقل بما لا يُقاس من أثمان الهزيمة.