الكاذبون والتاريخ وخطوط الدم

لا يبرر الشعور بالظلامة لأحد الكذب على تاريخنا أو تشويهه بأي شكل من الأشكال، ولا تبرر الخصومة وحتى العداء المس بشهداء حريتنا واستقلالنا لأي جهة إنتموا، على مر الأزمنة، لأنهم في لحظات تاريخية متعددة كانوا القلة التي قررت يوماً أن دمها أرخص من حرية الآخرين، لكنها قطعاً أغلى بكثير من كل ما يدفع وسيدفع للتدليس!

عنوان يديعوت أحرونوت: مقاتلو وحدة إيغوز قتلوا ابن زعيم حزب الله
بين المسلمين اليوم خلاف يقض مضاجعهم يغوص في التاريخ عميقاً، بل إن الخلاف خلافات، لا بين الطوائف في ما بينها إنما في كل طائفة بين بينها، والحكم دوماً تاريخ من الأحاديث تعالج القضية ذاتها وعين الزمان لكنها تختلف في الرواية، هكذا يصبح التاريخ عند طرف أكاذيب عند الآخر، ولعمق الاعتقاد بالمتواتر تستحيل القراءة المختلفة حالة من الخصام، والخصام بين الأقربين مآله العداء.

هذا قبل آلاف السنين، حيث لا كاميرا ولا شهود أحياء ولا أرشيف صحفياً، لا شيء سوى رجال نقلوا التاريخ من وجهة نظرهم. ماذا عنا اليوم في زمن التوثيق بالصوت والصورة وحتى الرائحة؟ ماذا عنا اليوم وفي جيب كل مواطن أرشيف متنقل يحوي الأحداث والأخبار والصور وكل ما خف حمله وغلا ثمنه؟

خلال السنوات القليلة الماضية شاعت بين طبقة من الذين يظهرون على شاشات التلفزيون أو يكتبون المقالات للصحف والمواقع الإلكترونية أو حتى الذي يخطون بعض الكتب لغايات سياسية وعقائدية محددة، شاعت هواية إعادة كتابة الأحداث بما يتناسب مع وجهات نظرهم. في العادة هذا يسمى تدليساً، لا سيما وأنه يقوم على نسب روايات الأحداث بشكلها الجديد إما إلى شخصيات متوفاة، أو إلى كتّاب يحتاج الوصول إليهم لجهد كبير، أو إلى مصادر مجهولة يسهل التستر عليها عند السؤال عن حقيقة الرواية. هواية التدليس هذه في زمن السرعة تشكل أهم رافد لكتاب التاريخ السريع، ذاك الذي يستفاد منه في زمن ذاكرة السمكة، حيث ترمى بين العوام قطعة أخبار مثيرة للجدل تصبح في لحظات على كل الألسن، وبعد ساعات تملأ المواقع لتتحول بعد ذلك إلى واقعة لا يمكن نفيها لا سيما وأن عدداً من الدخلاء على مهنة الصحافة، أو ممن يدعون علماً في القانون، أو أساتذة غير أمينين في الجامعات، يتكاثرون حول "قطعة الخبر" تماماً كما الذباب على قطعة الحلوى وتبدأ عملية القطع واللصق والتحليل والإستنتاج، بعدها تنطلق عملية الإستغلال السياسي والإعلامي لها على أكثر من صعيد، ولأن الكثرة تغلب الحكمة والشجاعة يتحول المذكور أعلاه إلى ثابتة في التاريخ المحكي المتداول لهذه اللحظة الزمنية.

أمثلة كثيرة على ذلك يمكن العودة إليها ربما بينها ما يحاول البعض تكريسه مؤخراً حول قضية إستشهاد هادي نصر الله، نجل أمين عام حزب الله، في العام 1997 خلال عملية ضد الإحتلال الإسرائيلي في منطقة الجبل الرفيع في جنوبي لبنان. فقبل مدة من الزمن خرج الناشط الحقوقي الجزائري أنور مالك على قناة وصال ناقلاً عن تقرير لما وصفه بالفرع 279 في المخابرات السورية نقلاً عن محطة بيروت التي تتخذ من السفارة السورية في العاصمة اللبنانية مقراً لها ما مفاده أن "هادي حسن نصر الله قتل في ملهى ليلي في بيروت" وبحسب مالك فإن الحادثة وقعت في أواخر آب/ أغسطس وجرى التكتم عليها ليعلن حزب الله لاحقاً أن ابن أمينه العام إستشهد خلال عملية في الجنوب.

بغض النظر عن أن ما يسمى بمحطة المخابرات السورية في السفارة السورية في بيروت لم تكن تعمل حينها لا لشيء سوى لأنه لم يكن هناك من سفارة في بيروت حتى كانون الأول/ ديسمبر عام 2008، لا يمكن هنا إلا الركون إلى ذاكرتنا الشخصية والتي ولله الحمد لم تتأثر بمرض ذاكرة السمكة الذي يجتاح الأمة من محيطها إلى خليجها، وكذلك إلى صور الفيديو التي بثتها القنوات العالمية لجثامين هادي نصر الله وهيثم مغنية وعلي كوثراني والتقارير الأجنبية والإسرائيلية التي تحدثت ملياً خلال تلك الفترة من العام 1997 ولاحقاً في العام 1998 خلال عملية التبادل الشهيرة والتي كانت محل اهتمام كبير من وسائل الإعلام تحديداً بسبب نصر الله الإبن.

عمد مالك وغيره ممن يعادون حزب الله للترويج للقصة المغايرة أعلاه بهدف ضرب صورة أمينه العام وتاريخ الحزب في النضال ضد إسرائيل. هم بلا شك نجحوا في مساحات جماهيرية محددة، حيث لا أحد يقف ويقول لهم: مهلاً أنتم تدلسون! مهلاً أنتم تكذبون! مهلاً أنتم تدخلون مساحة تاريخية ليست ملكاً لأهل الجنوب اللبناني، ولا هي للطائفة الشيعية، ولا لحزب الله، ولا حتى لعائلة نصر الله! هذا التاريخ ملك للشعب اللبناني ومن خلفه للشعب العربي الذي احتفل بتحرير جنوبي لبنان عام 2000، وهو التاريخ الذي لم يجرؤ حتى الإسرائيلي على محاولة تدليسه كما يفعل البعض اليوم.

من كان له مع حزب الله مشكلة فليحلها مع حزب الله حيث هو في الميدان الذي يختلف معه فيه، وبالحقائق، بعيداً عن التاريخ وبعيداً عن الوقائع وبعيداً عن مسيرة نضال دفع كل مواطن لبناني حصته من ثمنها، دماً وتكلفة وشعوراً بالخطر وهجرة وإغتراباً.
لا يبرر الشعور بالظلامة لأحد الكذب على تاريخنا أو تشويهه بأي شكل من الأشكال، ولا تبرر الخصومة وحتى العداء المس بشهداء حريتنا واستقلالنا لأي جهة إنتموا، على مر الأزمنة، لأنهم في لحظات تاريخية متعددة كانوا القلة التي قررت يوماً أن دمها أرخص من حرية الآخرين، لكنها قطعاً أغلى بكثير من كل ما يدفع وسيدفع للتدليس!