احتدام النزاع على قره باغ أفرز معادلة جديدة في القوقاز

التطوّر الأهمّ والأكبر على مشهد العلاقات الروسية - الأذرية يكمن في بروز معادلة اقليمية جديدة في منطقة القوقاز تضم كلاً من أذربيجان وإيران وروسيا. وأتضح أن الرئيس إلهام علييف هو صاحب هذه المبادرة وقد ناقشها مع القيادة الإيرانية أولاً ومن ثم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

يتناول كثيرون النزاع من فرضية وجود حلفين يقفان على النقيض في منطقة القوقاز
 كثُرت في الآونة الأخيرة الكتابات والتحليلات والاستنتاجات حول التصعيد الأخير في منطقة النزاع الأذري - الأرمني على قره باغ. إلاّ أن معظمها كان مبنياً إما على العواطف أو على مُعطيات أكلَ الدهرُ عليها وشَرِب، ولا تتجانس مع الواقع الجديد والاصطفافات الاقليمية والدولية. 
حتى الآن يتناول كثيرون هذا النزاع من فرضية وجود حلفين يقفان على النقيض في منطقة القوقاز. حلف تقوده روسيا ويضم أرمينيا وإيران وبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة من جهة، أما من الجهة الأخرى فيقف حلف تقوده تركيا ويضم أذربيجان وجورجيا ويدعمه الغرب. لكن الواقع المتشكّل يختلف تماماً.
روسيا تنتهج اليوم سياسة جديدة تُزاوج فيها بين القوّة الناعمة والقوّة الخشنة وبين الترغيب والترهيب في حدائقها الخلفية. ومن هذا المنطلق لم تعد أذربيجان خصماً بل غدت شريكاً استراتيجياً لها بعد توقيع عددٍ من الاتفاقيات بينهما خلال السنوات الأخيرة. 
والمهم أن باكو تعهّدت بعدم المشاركة في أية أحلاف عسكرية وعدم السماح بأية قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، بل وقّعت مع دول بحر قزوين الأخرى اتفاقية حول الأمن والاستقرار في حوض هذا البحر تُحظّر استخدامه من قِبَل أساطيل وجيوش الدول التي لا تطل عليه.
أما على صعيد التعاون العسكري فتُعّد موسكو مورد السلاح الأول لباكو. فقد وقّع البلدان عام ٢٠١٣ صفقة سلاح تزيد قيمتها على ثلاثة مليارات دولار. واللافت أن موسكو أكّدت التزامها تنفيذ هذه الصفقة حتى عندما كان الجيشان الأذري والأرمني يتبادلان الضربات العسكرية في قره باغ.
ومن هذه الزاوية فإن حجم التعاون العسكري بين أذربيجان وكلٍ من إسرائيل وتركيا يبدو متواضعاً جداً. أما الحديث عن أن التعاون العسكري بين باكو وتل أبيب يؤرّق طهران فيبدو أنه مبالغٌ فيه ومفتعلٌ في الإعلام الإسرائيلي والأرمني لتحقيق أهداف ٍمُحدّدة. إيران حصلت من أذربيجان على أجوبة مُقنعة بأن هذا التعاون محدود ولا يمسّ أمن الجمهورية الإسلامية.
وعلاوة على ذلك فإن باكو قدّمت أدلة على أن الطائرات من دون طيّار التي لمحتها الرادارات الإيرانية على الحدود مع أذربيجان ليست إسرائيلية وإنما تابعة للجيش الأذري وتنفّذ تحليقات استطلاعية في منطقة التماس مع القوات الأرمنية حول قره باغ. وفي بعض القواطع فإن المسافة عن الحدود مع إيران تبلغ سوى بضعة كيلومترات.
ولعلّ التطوّر الأهمّ والأكبر على مشهد العلاقات الروسية - الأذرية يكمن في بروز معادلة اقليمية جديدة في منطقة القوقاز تضم كلاً من أذربيجان وإيران وروسيا. وأتضح أن الرئيس إلهام علييف هو صاحب هذه المبادرة وقد ناقشها مع القيادة الإيرانية أولاً ومن ثم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
المبادرة الأذرية حظيت باهتمام وترحيب كبيرين في كل من طهران وموسكو. وبالرغم من التصعيد في قره باغ إلا أن وزراء خارجية الدول الثلاث التقوا في باكو ما أثار حساسية في يريفان. وزيادة على ذلك فإن اجتماع رؤساء حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي كان من المُزمع عقده في ٨ نيسان / أبريل في العاصمة الأرمنية، ألغي بمبادرة كازاخستان لكي لا ترى فيه أذربيجان انحيازاً لأرمينيا في نزاعها معها.
زِد على ذلك أن بيلاروسيا التي تُعتبر الحليف الأول لروسيا وتشارك معها في الدولة الاتحادية لمّحت إلى أن يريفان يجب أن تبدي مرونة أكبر في مفاوضات السلام لتفادي الصِدَام العسكري. بالعودة إلى المثلث الأذري - الإيراني - الروسي فإن الدول الثلاثة تسعى إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية البينية لما فيه مصلحة مشتركة في ثلاث قضايا أساسية بعد أضلاع المثلث، ألا وهي: 

أولاً، قضايا الأمن والاستقرار في المنطقة والتصدي للإرهاب واستخدامه أراضي الدول الثلاث للتسلّل إلى المنطقة والتوغّل فيها ومكافحة الاتجار غير الشرعي بالمخدرات. 
ثانياً تعزيز التعاون الاقتصادي المتعدّد الأوجه لا سيما في مجال الطاقة والنقل. وفي هذا الجانب تمّ التركيز على إنشاء ممر النقل "الشمال - الجنوب" الذي سيربط مستقبلاً منطقة الخليج بشمال أوروبا مروراً بالبلدان الثلاثة.
أما ثالثاً فجاءت قضايا التعاون في المجالات الإنسانية. أمام هذه الآفاق الواعِدة والمتنوعة لا تبدو علاقات كل من موسكو وطهران مع يريفان أكثر فائدة وأهمية من العلاقات مع باكو. وفي الوقت نفسه فإن ايران وروسيا لن تفرّطا بأرمينيا من أجل أذربيجان.
وهنا برز بوضوح الموقف الروسي - الإيراني المشترك من قضية قره باغ. موسكو وطهران تقولان إن النزاع يجب أن يُحل على أساس الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي. واستناداً إلى هذه الأسس والمبادئ فإن قره باغ هي إقليم تابع لأذربيجان. لكن الحل من وجهة نظر العاصمتين يجب أن يراعي حقوق الأرمن التاريخية والثقافية والإنسانية والواقع القائم على أرض الاقليم. 
وثمة معطيات بأن روسيا وإيران تُعدّان مبادرة جديدة تستفيد من كل تراكمات العمل الذي أنجزته ثلاثية مينسك المُنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لبلوغ الحل النهائي على مراحل، تكمن مرحلته الأولى في انسحاب القوات الأرمنية من المناطق الأذرية المُحتلّة التي تقع خارج قره باغ مع إبقاء ممر لاتشين الذي يربط الاقليم بأرمينيا، يلي ذلك عودة اللاجئين الآذريين إلى مناطقهم.
بعد ذلك تأتي مرحلة انتقالية لخمس سنوات على أقل تقدير ريثما تستتب الأمور في قره باغ وحولها وتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي قدر الإمكان، ليصار بعد ذلك إلى استفتاء حول الصفة القانونية النهائية للإقليم المُتنازَع عليه. كل ذلك يرافقه تطبيع للعلاقات بين باكو ويريفان ورفع الحصار عن أرمينيا وإشراكها في المشاريع الاقتصادية في المنطقة. وهذا سيكون له انعكاسات  إيجابية على جورجيا أيضاً.
إذاً إنها تحاول اليوم إصلاح علاقاتها مع روسيا بعد الهزيمة السياسية التي مني بها عدوّ موسكو اللدود ميخائيل سآكاشفيلي. أما بالنسبة إلى تركيا فإن موسكو تنطلق من أن أزمتها معها ستزول عاجلاً أم آجلاً، وأن أنقرة هي الأخرى يجب أن تلعب دوراً إيجابياً في تحقيق الاستقرار في القوقاز. وهذا ما ترغب فيه أذربيجان وإيران اللتان تعملان معاً من أجل إيجاد مناخ ملائم لاستئناف العلاقات الروسية - التركية.
قد لا يحصل ذلك قبل تسوية الأزمة السورية وقد لا يحصل ذلك في ظل حكم تركيا من قِبَل الثنائي أردوغان - دَاوُد أوغلو، لكن تحقيق الأمن والاستقرار والتنمية في القوقاز يتطلب تنازلات من الأطراف كافة، إذا كانت هذه الأطراف تنشده.