أبو الفتوح والإخوان.. ألف ليلة وليلة
هو اليوم خارج جماعة الأخوان المسلمين، وأغلب من عرفه من قياداتها هم اليوم داخل السجون . جمعتهم الدعوة وفرقتهم السياسة. حزين هو على ما أصاب الأخوان المسلمين على أيديهم قبل غيرهم. قلق على مصر التي يرى أنها تضل طريقها نحو الإصلاح والتطور، متحسراً على دماء ثوار يناير، تلكم الثورة الجميلة التي لم تعرف مصر ثورة قبلها أو بعدها.
بعد دردشة وهمهمات سريعة، وقع اختياره على مطعم كان قد أناخ راحلته قبالة البحر على امتداد الكورنيش في العاصمة بيروت حيث عبق التاريخ قد أسدل أستاره على كل ما تسقط عليه العين داخل المطعم من السقوف المقوسة، إلى القناطر المنتصبة بالألوان المختلفة عند كل زاوية، إلى الطاولات التي غطّتها صواني نحاسية مطرّزة.
في ركن بعيد عن الطاولات التي علتها سحب دخان تتصعّد في الهواء على إيقاع قرقرة الماء اللاهث في أرحام النراجيل المستقيمة عند أطراف أغلب الطاولات التي امتدت أمامنا. جلس ضيفنا مستقبلاً وجهه الكورنيش . حرصت أن أجلس قربه لطرد الوحشة . ذهبت عيناي ترعيان في المشهد، فإذا البحر يتهادى عند الغروب، والشمس ترسل خيوطها الذهبية الأخيرة وقد غلبها النعاس قبل أن تضع رأسها على وسادة الغيوم الداكنة.
كانت تلك الخيوط تتراقص على ظهور الأمواج المندفعة ببطء لتتمدد مستريحة مستسلمة على الصخور الرابضة على امتداد الكورنيش ورائحة البحر تمرّ بنا من حين لآخر. كان المشهد مهيباً لا تقطعه إلا وجوه المارّة وسط عشرات المتنزهين على الكورنيش. كلّ شيء كان ينبض بالحياة، ويغرو بالامل، ويمنح المرء لحظات للتأمل والتخلص من ضغوط الحياة وهمومها. كان المطعم المطلّ على الكورنيش من علو بسيط، يرسل أنغاماً موسيقية أصيلة، تهمس في آذاننا على نحو بطيء، فيستسلم المرء لما توحيه. بدا ضيفنا أكثر راحة وفي نفسية مختلفة عن اليوم الذي سبق.
بعد برهة من التأمل وصمت لا أدري كم طال وقته، مال إليّ ضيفنا وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة تشي بالرضا والارتياح والأمان. وقال لي بلهجته المصرية: "يا أستاذ محمد "لو جبت آدم وسيلين معاك كنت عرفتنا عليهم" قاصداً ولديّ ، كنت حدثته عنهما قبل يوم من اللقاء اثناء التعارف. شعرت بالخجل، وبادرته مبتسما ً:إن شاء الله، مرة أخرى يا سيدي. تكون فيها إقامتك أطول مما هي عليه الآن.
قال لي : اتعرف يا أستاذ محمد ! لقد زرت يوماً الأستاذ عمر التلمساني (المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين في مصر ، توفي عام 1986) في بيته، وجدته يسمع أغنية لأم كلثوم وهو يدندن معها . قلت له ما هذا يا استاذ عمر؟ فقال الأستاذ عمر: أنا لا أسمع الموسيقى فقط بل أعزف أيضاً على تلك الآلة. وأشار لي إلى ركن داخل البيت، فإذا آلة بيانو قد ملأت ذلك الركن".
استرسل ضيفنا في حديثه مستذكراً أياماً جميلة عاشها، بعض منها في السجون، وبعضها في صحبة رفاق الدرب: كنا مجموعة من مكتب الإرشاد داخل الزنزانة يوماً. من بيننا الأستاذ عمر (التلمساني). في آخر الليل كان الأستاذ عمر يأخذ مذياعه الخاص ويلصقه بأذنيه في زواية بعيدة قليلاً عنّا. كنت أعلم انه كان يستمع لأم كلثوم التي كانت بعض محطات الإذاعة تبث اغانيها في هذا الوقت المتأخر من الليل. فأقبلت عليه يوماً قلت له يا أستاذ عمر أنا اعرف أنك تسمع لأم كلثوم لماذا لا ترفع الصوت لنسمع كلنا؟ فأجابني: أخاف من ألسنة بعض الشباب. أخشى أن يفتعلوا لنا المشاكل، قاصداً بعض السلفيين المتشددين المسجونين على ذمة قضايا أيضاً.
يتنفس ضيفنا الصعداء وبصوت متهدج يقول: "لم تكن يومها جماعة الاخوان المسلمين قد تسلّفت أو اجتاحها التسلف". ضيفنا لم يكن عضواً هامشياً في جماعة الاخوان المسلمين، بل كان عضو مكتب إرشادها لسنوات طويلة. وقد قال عنه بعض الدارسين بأنه "المؤسس الثاني لجماعة الاخوان المسلمين بعد حسن البنا".
ربما كان الأمر مبالغاً فيه، لكن المؤكد عنه أنه لعب دوراً كبيراً في السبعينيات من القرن الماضي حين تحالف مع زملائه من قيادة الحركة الإسلامية التي اكتسحت الجامعات المصرية يومها، فبايعوا الاخوان المسلمين أفراداً وجماعات، ومنحوها جسماً فضفاضاً ما كان لرأس الاخوان أن يعلو من جديد لولا ضخامة الجسم الذي قدم له.
هو اليوم خارج جماعة الأخوان المسلمين، وأغلب من عرفه من قياداتها هم اليوم داخل السجون . جمعتهم الدعوة وفرقتهم السياسة. حزين هو على ما أصاب الأخوان المسلمين على أيديهم قبل غيرهم. قلق على مصر التي يرى أنها تضل طريقها نحو الإصلاح والتطور، متحسراً على دماء ثوار يناير، تلكم الثورة الجميلة التي لم تعرف مصر ثورة قبلها أو بعدها، حسب ما يرى ضيفنا الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح الذي ودعته ، آملاً أن نلتقي في ظروف تكون بلادنا العربية أفضل مما هي عليه الآن.