زوال إسرائيل: الحصان ليس وحيداً (2)
المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين يواجه الانهيار خلال عشرين عاماً. إسرائيل ستزول عن الخارطة السياسية للشرق الأوسط خلال هذه المدّة. هذه خلاصة دراسة أعدّها مركز "الدراسات الاستراتيجية والتقنية الروسي المستقل" في موسكو.
المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين يواجه الانهيار خلال عشرين عاماً. إسرائيل ستزول عن الخارطة السياسية للشرق الأوسط خلال هذه المدّة. هذه خلاصة دراسة أعدّها مركز "الدراسات الاستراتيجية والتقنية الروسي المستقل" في موسكو. تستنتج الدراسة أن إسرائيل ستصبح ذكرى لرفض الفلسطينيين والعرب لها ولاعتمادها على القوّة العسكرية فقط وفقدانها الدعم الدولي. المسألة العسكرية ستكون موضوع الجزء الثالث لكن ماذا عن الداخل والمحيط والشرعية الدولية؟
كلام الدراسة الروسيّة يؤكّده المؤرّخ البريطاني أرنولد توينبي، فهو يقول: إنه "على الرغم من سيطرة إسرائيل على أراضٍ عربية كثيرة في عام 1967 فإنها لن تعيش طويلاً لأنها مجتمع شاذّ ودولة غريبة ترفضها الأرض والشعوب حولها. إسرائيل ترفض نفسها وتشجّع العرب والعالم على أن يتّحدوا ضدّها اليوم أو غداً حتى يلفظوها، فإذا انقرضت فلن يكون العرب هم مَن فعلوا ذلك ولكنّها إسرائيل نفسها".
مصير إسرائيل يشبه مصير الممالك اللاتينية التي أقامها الصليبيون إبّان احتلالهم لفلسطين. وهي نفسها الممالك الصليبية المتواجدة سابقاً في بلاد الشام. كل هذه الممالك كان مصيرها مرهوناً برغبة أوروبا في إبقائها ضمن الحفاظ على مشروعها الاستعماري. ومهمّة بقائها تحتاج إلى إمداد بشري ومادي. تلك الممالك انهارت وانتهت بعدما تجاهلتها أوروبا ولم تعد تهتم بها وانشغلت بشؤونها الداخلية. السيناريو التاريخي ينسحب بحذافيره على مصير إسرائيل. هي لا تستطيع البقاء من دون الدعم الغربي والأميركي.
ارتبطت نشأة إسرائيل بالاستعمار العالمي. نتج من الثورة الصناعية الأوروبية فائض سلعة وفائض بشري. كان الاتجاه إلى حل هذه المشكلة عن طريق الاستعمار الاستيطاني وأكثر أنواعه خطورة هو الاحتلالي كما في الولايات المتحدة وإسرائيل وهو يفوق خطورة الاستعمار الاندماجي أو ذلك المبني على التفرقة اللونية. ضمن هذا الإطار تم حل مسألة يهود أوروبا. ونظراً إلى طابع إسرائيل الاحتلالي كان خيارها العنف والشراسة مع المقاومة العربية وهو ما طرح مفهوم الجدار الحديدي الذي طوّره آرئيل شارون إلى الفولاذي. تعتمد نظرية الجدار الحديدي على هزائم مُكلفة تؤدّي إلى تحوّلات لدى الخصوم من متطرّفين عنيدين إلى معتدلين على استعداد للمساومة بهدف تحويل الصراع الوجودي بين إسرائيل والعرب إلى "سلام قائم" على التوافق وليس العدل. وهنا ظهر مصطلح "صهينة اليهودية" وهو استغلال المفاهيم الدينية وإفراغها من مضمونها الأخلاقي والروحي واستخدامها في تعبئة الجماهير خلف صفوفها، وهو ما يُطبّق في التداخل بين القومي والديني في "عيد الاستقلال". لكن خلال الأعوام العشرة المقبلة تصبح هذه التركيبة الدينية السياسية فارغة المضمون ولن تُقنع أحداً لا سيما مع ظهور داعش والنظريات اللادينية. بالتالي ستعاني إسرائيل من انخفاض أسهمها الدولية لا سيما في الشارع العالمي.
تغيّرت الدبلوماسية الإسرائيلية لا سيما مع استمرار حكم بنيامين نتنياهو ويظهر ذلك في كتابه "إسرائيل والعالم". هو يؤكّد رفض السلام مع العرب والفلسطينيين وكذلك يضع نفسه نداً للولايات المتحدة الأميركية، اختلف مع جون كيري. فضحه على الهواء مباشرة أثناء العدوان الأخير على غزّة. وكذلك اختلف مع أوباما ونشرت الصحافة التصريحات بينهما لا سيما بعد دعم نتنياهو ميت ترومني في وجه أوباما في الانتخابات الرئاسية. ومهما عملت منظمة "إيباك" في الولايات المتحدة إلا أن اهتمام السياسة الأميركية في الشرق الأوسط يبتعد رويداً رويداً لا سيما بعد اكتشاف النفط الصخري. كان آرئيل شارون حين يلتقي أي مسؤول أميركي يقول له: "إسرائيل أرخص حاملة طائرات في العالم". وهذا صحيح فالولايات المتحدة تعتبر إسرائيل قاعدة عسكرية أميركية لها في قلب الوطن العربي، لكن اليوم يمكن الاستغناء عنها لا سيما بعد كثرة القواعد العسكرية الأميركية في الاقليم. يُضاف إلى الخلاف مع الأميركيين الغضب الأوروبي من إسرائيل لا سيما بموضوع بناء المستوطنات. والقرار الأوروبي الأخير بمقاطعة بضائع المستوطنات خسرت إسرائيل من خلاله 30 مليار دولار وتصريحات أوروبية كثيرة اتهمت إسرائيل بقتل الفلسطينيين وإنها تتحمّل مسؤولية توقّف عملية المفاوضات. وأكثر من ذلك اتّهمت وزيرة الخارجية السويدية مارغوت وولستروم إسرائيل بأنها وراء تفجيرات باريس التي تبنّاها داعش.
خسرت إسرائيل الرأي العام العالمي خلال العدوان على غزّة، الصحافة العالمية هاجمت إسرائيل حتى وصلت إلى مرحلة استهزاء جون ستيورات بما تفعله إسرائيل. وبناء على الرأي العالمي كان الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة وعملية نزع الشرعية عن إسرائيل بدأت، والصورة أصبحت على أنها دولة أبارتهايد.
إسرائيل ليست طروادة ولا داعي أن يُدخل الفلسطينيون حصانهم إلى داخلها للقضاء عليها. حصان إسرائيل الخشبي منها وفيها. حسب تقديرات إسرائيلية رسمية يتواجد خارج إسرائيل حالياً حوالى 800 ألف يهودي من حَمَلَة الجنسية الإسرائيلية. أكثر من 500 ألف إسرائيلي يحملون جنسية أميركية أو أوروبية ويمكنهم مغادرة إسرائيل في أي وقت ويلتحقون بمليون إسرائيلي هاجروا فلسطين منذ عام 2000. أدّت الانتفاضة الثانية إلى تقلّص أعداد المهاجرين اليهود وهو ما يقوّض الادعاءات الإسرائيلية حول الأمن ما خلق "دياسبورا جديدة". استخدم اليهود في التعبير عن الهجرة إلى إسرائيل تعبير او مصطلح "عالياه" ويعني الصعود إلى السماء بدلاً من "هجيراه" ويُدلّل على الهجرة. وهم فعلوا ذلك ليحيطوا عملية الاستيطان الاستعماري بهالات من القداسة الدينية. لكن الوضع تغيّر فإن المتقدّمين للحصول على "الجرين كارد" في الولايات المتحدة من كل الأوساط ومن أعمار متنوّعة كثيرة. كان للعنصر الأمني دور أساسي في ذلك إلى جانب أن المستوطنات أصبحت أكثر إفقاراً وهو ما يعبّر عن انشغال مرضي بالأمن على الرغم من أن الشعب الفلسطيني تحت الحِصار والميزان العسكري لصالح إسرائيل غير أن كل ذلك لم يستطع أن يقضي على اليقين الإسرائيلي من أن الأرض ليست أرضهم.
الوضع المجتمعي الإسرائيلي هزيل ويتفكّك بسرعة قياسية. قام التشكيل الاجتماعي لإسرائيل منذ تأسيسها على تعدّدية إثنية نادرة. هُجّر مئات الألوف من بقاع الأرض بثقافاتهم وأعراقهم المختلفة ولم يجمع بينهم سوى الدين، وتشكّل المجتمع في أرض تملكها أعراق أخرى بل واتباع ديانات أخرى غير اليهودية. تسبّب ذلك بزيادة التعدّد والتنوّع الاثني والديني في المجتمع. وينقسم المجتمع في إسرائيل أفقياً وعمودياً بدرجة مُثيرة. يتشكّل عمودياً من عرقين أساسيين: "السفارديم" وهم اليهود الشرقيون ويشكّلون أكثر من 60% من اليهود في المجتمع، و"الأشكناز" أي اليهود الغربيون ويشكّلون حوالى 40% من اليهود. ثمة تناقضات كبيرة بين هاتين الفئتين على وجه التحديد تتعلّق بالتاريخ والتوجّهات السياسية والفكرية بل والطائفية الدينية. ينقسم المجتمع أفقياً على أسس متعدّدة: يتشكّل من حوالى 15% من المسلمين، و2% من المسيحيين، فيما يشكّل اليهود 79% من المجتمع. أما نسبة الفئات العلمانية 75-80%، والمتديّنة بنسبة 20-25%. يشكّل الفلسطينيون داخل المجتمع الإسرائيلي حوالى 20,8%، أما المهاجرون اليهود فيشكّلون 79%. والفئة الأضعف أي "الفلاشا" وهم المهاجرون من أثيوبيا نسبتهم لا تتجاوز الـ1,3%. ويتوزّع هذا التنوّع الاثني والديني على أحزاب سياسية ودينية وطائفية مختلفة تزيد على 15 حزباً رئيسياً.
وينقسم المجتمع في إسرائيل بتراكيبه المختلفة عمودياً في النظام السياسي إلى اتجاهات يسارية ويمينية في المحصّلة. ولا ينفي ذلك بالطبع وجود التوجّهات الوسطية أو غير ذلك، غير أن الصفة السائدة والمؤثّرة في النظام السياسي هي التشدّد حالياً لا سيما بعد سيطرة "الحريديم" (المتديّنون) على نسبة كبيرة من صناعة القرار في الحكومة والتوسّع الاستيطاني.
تشعر الأعراق والطوائف في إسرائيل بالظلم. الفلسطينيون (العرب) المسلمون والمسيحيون يتعرّضون لاضطهاد واضح. محاولات عديدة لاستبعادهم من الحياة السياسية الإسرائيلية والزجّ بهم في خانة أعداء الدولة، وعدم اعتبار مصالحهم ومستقبل أبنائهم في أنظمة إدارة الدولة المتعلّقة بالتعليم والخدمات الصحيّة والبلدية وغيرها. كما لا يتمتّع هؤلاء على الرغم من انتماء عدد منهم للأحزاب الإسرائيلية الرئيسة بالمناصب العُليا إلا ما ندر ويُستبعدون عادة من المنصب الوزاري. ويُطلب منهم الخروج من اجتماعات لجنة الأمن والخارجية في الكنيست عندما يجري الحديث عن العرب الفلسطينيين في الأراضي المُحتلّة عام 1967. في المقابل يشعر اليهود الشرقيون (السفارديم) بسيادة العنصر الغربي (الأشكناز) على مقاليد الحكم. يسيطر اليهود الغربيون على أكثر من 70% من المناصب العليا في الدولة، فيما يحظى اليهود الشرقيون فقط بما لا يزيد عن 30% منها. كما أن المتديّنين يشعرون باستهتار العلمانيين المسيطرين على مقاليد الحكم بالدين والشعائر الدينية. ولا يقبل هؤلاء تدخّل النظام القضائي في وقف أو منع بعض ممارساتهم الدينية، فيما ينظر العلمانيون بخطورة كبيرة إلى تزايد نفوذ المتديّنين في المجتمع ما يؤثّر على تقدّم وتطوّر الدولة. الطرفان تواجها في الشارع أكثر من مرّة، ما يعني أن المواجهة مستمرّة وتحمل مفاجآت، لا سيما وأن التغيّرات في الأحزاب والتوجّهات تصل إلى 200% خلال العقدين الأخيرين وفقاً لمركز "دراسات جامعة تل أبيب".
الأكذوبة: شعب بلا أرض لشعب بلا أرض تم فضحها. الشعب الفلسطيني لا يزال في أرضه وأعداد كبيرة من اليهود أتت إلى فلسطين وغادرت. الفكرة الدينية تم نسفها حتى أن فئات من اليهود تطلق على الزواج المُختلط باعتباره أحد عوامل الاندماج في المجتمعات الأخرى تعبير "الهولوكوست الصامت". إنه الخوف من الاندماج مع شعوب وثقافات أخرى. الخوف مبرّر لأنه يفكّك الدولة العبرية من داخل مجتمعها، حتى أن التفكّك السياسي واضح أيضاً من خلال الانشقاقات العديدة في الأحزاب. ويعزّز من عوامل التآكل الداخلي تزايد معدّلات الشذوذ والزواج بين الرجال وانتشار المخدّرات والفساد الإداري حتى طال رؤساء الوزراء وقادة في الجيش.
أما الوضع النفسي للمواطنين الإسرائيليين فخطير جداً لدرجة أن الحكومة خصّصت أطباء نفسيين بصورة مجانيّة لمن يودّ ذلك. فالخوف يتسيّد النفوس الإسرائيلية لا سيما بعد العدوان الأخير على غزّة واندلاع الانتفاضة الثالثة. وبعيداً عن الرابط الأمني بالنفسي، لم تعد إسرائيل ذلك الملاذ الآمن اقتصادياً واجتماعياً، فمع انتشار التمييز انتشر الفقر ليصل إلى نسبة 32% وكذلك البطالة التي وصلت إلى 35%.
المستوى الدبلوماسي والسياسي يهبط إسرائيلياً يقابله صعود فلسطيني. المستوى المجتمعي والاقتصادي والنفسي الإسرائيلي ينحدر جداً يواجهه تمسّك فلسطيني بالأرض والدفاع عنها. هكذا يصعد الحصان الفلسطيني الأصيل كل المنحدرات والحصان الخشبي الإسرائيلي يتكّسر في فؤوس وسكاكيين الفلسطينيين.
نلتقي في الجزء الثالث والأخير حول الحصان العسكري وزوال إسرائيل..