الانتخابات التمهيدية الأميركية.. دروس وحقائق أولية

أسفرت الجولة الأخيرة عن بروز كل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب كمرشحين "واقعيين" بانتظار التتويج الرسمي نهاية الشهر المقبل. الملفت أن النخب الأميركية الحاكمة اصطفت وراء المرشحة كلينتون، رغم ما يعترض مسيرتها من "ازمات" تتعلق بسيرتها وأدائها. في جانب الحزب الجمهوري، اصطف معظم رموز النخب السياسية والاقتصادية والمالية ضد المرشح ترامب، كل لأسبابه، عقب موجة دعم فاترة قبيل يوم الانتخابات لما يشكله من "تهديد" لمشروع الهيمنة الأميركية على امتداد العالم.

المرشحون يجسدون العدوانية

هيلاري كلينتون ( أ ف ب )
 اتضحت معالم وآفاق السياسة الأميركية المقبلة، وفق تقييم النخب الأميركية، عقب افصاح المرشحة هيلاري كلينتون عن "برنامجها للسياسة الخارجية،" 2 حزيران/ يونيو الجاري، الذي اقتطفت كبرى الوسائل الاعلاميه ما ورد فيه من تهجم وتحقير لمنافسها الجمهوري دونالد ترامب، الذي "يشكل تهديداً" للسياسة الأميركية وتوسعها على امتداد العالم، وتجاهلت الشق الأهم في أولوية المؤسسة العسكرية.

ما تميز به خطاب هيلاري هو الاشارة المتكررة "للاستثنائية" الأميركية، التي تعني ببساطة إما أن تقبل الدول والشعوب الأخرى سيادة وهيمنة واشنطن، أو مواجهة مصائر مجهولة لقياداتها، وتعريض الآخرين لسلسة من الحروب والنزاعات الداخلية. 

سجل هيلاري، كما في مفردات خطابها الأخير، لا يشذّ عن تأييد المغامرات العسكرية والتدخل بالقوة في شؤون الآخرين: حروب البلقان وغزو العراق وأفغانستان وتدمير ليبيا، "وتأييدها الحاسم" لمسلحي المعارضة السورية من الجهاديين المتطرفين.

مبدأ الهيمنة الذي يجري تداوله في أروقة واشنطن يرمز له بـ"المسؤولية لبسط الحماية - R2P (responsibility to protect)،" الذي تعد السيدة كلينتون واحدة من أشد مناصريه داخل المؤسسة، برفقة المندوبة الدائمة لدى الأمم المتحدة، سيمانثا باور، ومستشارة الأمن القومي، سوزان رايس – اللواتي شكلن رأس الحربة لتدمير ليبيا. بالطبع تفادت كلينتون تعريف من أعطى المسؤولية لمن.

آفاق الانتخابات التمهيدية

أسفرت الجولة الأخيرة عن بروز كل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب كمرشحين "واقعيين" بانتظار التتويج الرسمي نهاية الشهر المقبل. الملفت أن النخب الأميركية الحاكمة اصطفت وراء المرشحة كلينتون، رغم ما يعترض مسيرتها من "أزمات" تتعلق بسيرتها وأدائها. في جانب الحزب الجمهوري، اصطف معظم رموز النخب  السياسية والاقتصادية والمالية ضد المرشح ترامب، كل  لأسبابهعقب موجة دعم فاترة قبيل يوم الانتخابات لما يشكله من "تهديد" لمشروع الهيمنة الأميركية على امتداد العالم.

بلغة الارقام، فيما يخص ترامب، استطاع تخطي عتبة 13 مليون ناخب من الحزب الجمهوري لصالحه، بتوظيف ما يعتقده "سحر شخصيته" لدى الجمهور الانتخابي الغاضب، وليس بفضل مهارات وكفاءات لفريق حملته الانتخابية. عند الاخذ بعين الاعتبار تنامي تأييد الجمهور الانتخابي للمرشح بيرني ساندرز، يمكن اعتبار جناحيهما ممثلا اقوى للنبض الشعبي والجمهور الانتخابي الأميركي؛ الأمر الذي يضاعف الأعباء الملقاة على كاهل هيلاري كلينتون لكسب جمهور ساندرز بأعداد وازنة.


أبرز الخصائص المميزة لجولة الانتخابات الأخيرة يمكن ايجازها بالتالي:

عنصر الحماس للمشاركة

صب في صالح الحزب الجمهوري مقارنة مع الجولات السابقة، اذ تشير بيانات المشاركة الرسمية في العام الجاري الى مشاركة 50.67% من الناخبين الجمهوريين مقارنة بمعدل مشاركة 36.12% في انتخابات عام 2008. مشاركة الناخبين عن الحزب الديموقراطي بلغت 49.33% مقارنة مع نسبة مشاركة 63.88% لجولة عام 2008؛ أي ما يوازي خسارته لنحو 7.3 مليون صوت.

لا ينبغي القفز عن الاجراءات التي طبقها الحزب الجمهوري عبر عقد من الزمن "لتوزيع تمثيل الدوائر الانتخابية" لمحاباة جمهور ناخبيه واقصاء ما استطاع من مؤيدي منافسيه في الحزب الديموقراطي.

الدور المؤجل للمال

دونالد ترامب الأكثر جدلاً ( أ ف ب )
دلت الجولة الحالية على تفوق المرشحة هيلاري كلينتون في جمع التبرعات وحجم الانفاق على مختلف الانتخابات التمهيدية، على خصومها الجمهوريين بشكل أساسي، بيد أن تلك الميزة لم تترجم اضطراداً في تدفق أعداد الناخبين والمؤيدين بنسبة مريحة.

قياساً على ذلك، تشاطر كل من بيرني ساندرز ودونالد ترامب في عدم اعتمادهما على تبرعات مكثفة من "لجان العمل السياسي" التي لا تتقيد بسقف مالي معين، لكن آدائهما جاء مبهراً قياساً لحجم الانفاق ورغم عدم تمكن ساندرز من الاطاحة بمنافسته كلينتون.

كما اشترك ساندرز وترامب بالاقلاع عن المراهنة والاعتماد على طاقم انتخابي يحظى بتجربة مميزة يقابله انفاق مالي ضخم. وراكما مؤيديهما بالاستناد إلى قدرتهما على حشد أعداد كبيرة ومتنامية من المؤيدين في مهرجانات انتخابية، هي أقرب للتجمعات الشعبية تجاوزت في بعض الأحيان عشرات الآلاف من المشاركين. بالمقابل حافظت كلينتون على اتباع النموذج التقليدي والمراهنة على جهود الاخصائيين في حملتها الانتخابية والاستناد إلى البيانات واستطلاعات الرأي المعتادة، ذات الكلفة المتنامية، بيد أن نتائجها في حجم المشاركة الشعبية جاءت مخيبة للآمال.

غضب الناخبين من المؤسسة الحاكمة

بلغت نسبة الغضب الشعبي من الحكومة المركزية آفاقاً مقلقة، إذ أعرب نحو 80% من عموم الناخبين عدم ثقتهم القطعية بالحكومة "أو منحها ثقة في أحيان نادرة." الأمر الذي يفسر جزئيا تدفق جمهور الناخبين بكثافة إلى جانب كل من ترامب وساندرز، لا سيما الأول الذي يجاهر بصعوده المشهد من خارج المؤسسة الحاكمة كدليل على صدقيته في التصدي لتجاوزات السلطة وتهميش قطاعات شعبية متزايدة.

 يحسب لترامب قدرته على تحفيز وتوسيع قاعدة الناخبين عن الحزب الجمهوري، ويخشى قادة الحزب الديموقراطي تمكنه من استقطاب بعض قواعده نظرا لعدم امتثاله لقيود السلطة المركزية وابتعاده عنها، بصرف النظر عن استفادته القصوى من شبكة علاقاته المتشعبة داخل المؤسسة، سياسياً واقتصادياً ومالياً.

خدم ساندرز لفترة معتبرة في أروقة الكونغرس بمجلسيه لكنه حافظ على توجهاته السياسية المستقلة ووظفها في استقطاب أعداد كبيرة من الناخبين بلغت عدة ملايين يميلون للتيارات الليبرالية وليس بالضرورة مؤيدون للحزب الديموقراطي، بل يصنف الكثيرين منهم في عداد المستقلين.

لساندرز الفضل في اتاحة الفرصة لبعض القوى السياسية بتوجهات تقدمية البروز على المسرح السياسي، بعد طول تهميش وملاحقة ومعاقبة واعتقال، والتي قد تستطيع فرض حضورها وبرامجها السياسية في مؤتمر الحزب الديموقراطي الشهر المقبل، خاصة في ظل ما تفيده بيانات الاستطلاعات الانتخابية بأن 80% من الناخبين يميلون لترشيح ساندرز مقابل 20% لصالح كلينتون.

تدني الثقة بكلا الحزبين

شبه اجماع في الأوساط السياسية بأن الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديموقراطي، يعانيان من اقلاع القاعدة الشعبية عن تأييدهما بمعدلات شبيهة بسابق الايام. ولوحظ تبدل طفيف في لهجة وخطاب هيلاري كلينتون للتقارب وأحياناً التماهي مع مطالب المرشح ساندرز وكل ما يمثله.

الأمر عينه واجهه الحزب الجمهوري إذ أن طبيعة الجمهور الانتخابي الذي استطاع ترامب استقطابه شارك بحكم معارضته لتوجهات المؤسسات الحاكمة ومساهمتها في شلل آداء المؤسسات الحكومية. 

عامل التاريخ

دخلت هيلاري كلينتون التاريخ السياسي الأميركي من أبوابه الواسعة كأول امرأة مرشحة للرئاسة عن حزب سياسي رئيسي، وستوظف تلك الميزة في خدمة حملة ترشيحها لأبعد الحدود. وأهدت فوزها السياسي إلى "أجيال من النساء والرجال الذين ناضلوا وضحوا وصنعوا هذه اللحظة".

استنهاض حماس القاعدة الانتخابية أحد أهم عناصر نجاح الحملة، الأمر الذي لم تتقنه السيدة كلينتون راهناً بمعدلات تشابه ما نالته في حملتها السابقة عام 2008. شاع سابقاً أنها "تنظر بعين العطف" لاختيار شخصية من أصول لاتينية لمنصب نائب الرئيس، والذي إن اقدمت عليه من شأنه أن يسهم ايجاباً في حشد الجالية الكبيرة من اصول لاتينية؛ مما سيرجح الفارق الفاصل بينها وبين ترامب لصالحها.

التصويت ضد مرشح وليس معه

تتشاطر كلينتون وترامب بتقلص شعبيتهما بين الجمهور الانتخابي العام، التي تحجم عنهما معاً بنسبة 60% من عدد المشاركين. الأمر الذي سيقود الى الاستنتاج بأن الفائز في الحملة الرئاسية بلغ المنصب لشح التأييد العام وليس بسببه.

درجت العادة في النظام السياسي الأميركي إمهال الرئيس الجديد فرصة 100 لتحديد التوجهات السياسية وما ينوي انجازه من ملفات، مما يفاقم قدرة كل من ترامب وكلينتون في التغلب على الضرر المرافق. أقصى ما سينجم عن هذا السيناريو هو عدم تؤهل الرئيس المقبل لولاية ثانية، على افتراض أن صعوبات داخلية وفتح ملفات قديمة قد تؤدي لازاحته.

دور الفضائح

 شكلت حملة انتخابات عام 1972 نقطة فاصلة في مصداقية المؤسسة الحاكمة مع تداعيات "فضيحة ووترغيت" التي أطاحت بالرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون. وجهدت المؤسسة منذئذ في تسييج مؤسسة الرئاسة قدر المستطاع لاستعادة هيبتها، التي لم تعمر طويلاً وخضعت لمناكفات السياسيين من الحزبين خاصة في سعي قادة الحزب الجمهوري الاطاحة بالرئيس الأسبق بيل كلينتون انتقاماً من اسقاط الرئيس نيكسون.

فيما يخص المرشحة هيلاري كلينتون، رافقتها سلسلة من القضايا التي رغب أصحابها في ترقيتها إلى مصاف الفضائح، أبرزها مراسلاتها الالكترونية التي تمت عبر صندوق بريد خاص بها لا يخضع لاجراءات الحماية الرسمية، والذي استخدمته في بعض مراسلاتها الرسمية. تداعيات المسألة لها الفضل الأول في تراجع معدلات شعبيتها امام منافسها دونالد ترامب – لكن إلى حين.

تعزز أمل خصوم كلينتون، في الحزبين، من فرصة الاطاحة بها عقب اصدار مكتب التحقيقات الفيدرالي – أف بي آي –توصية بمتابعتها قانونياً، فضلاً عن قضية اخرى تلاحقها وزوجها بتلقي "مؤسسة كلينتون" الخيرية تبرعات مالية مقابل تقديم "خدمات سياسية الطابع،" خلال فترة توليها وزارة الخارجية، من بين زبائنها الحكومة السعودية ودول النفط العربية.

في العرف السياسي ليس مستبعداً أن تتم الاطاحة بالسيدة كلينتون، بيد أن إعدادها وفوزها المؤزر وتأييد الرئيس الأميركي لها دون لبس يؤشر على لأن المؤسسة الحاكمة ستحجم عن المضي في القضايا المثارة إلى النهاية، وستجد مخرجاً مشرفاً لها لا يعيق تبوءها منصب الرئيس. أما وإن نحجت محاولات الاطاحة بها قبل المؤتمر الحزبي، نهاية الشهر المقبل، فليس مستبعداً أن يقفز نائب الرئيس جو بايدن إلى حلبة السباق لحفظ ماء وجه الحزب الديموقراطي، من ناحية، وتشكيل ضمانة لكسب ولاية رئاسية أخرى للديموقراطيين.

في حال تحقيق كلينتون الفوز بمنصب الرئيس، قد يمضي مناهضوها في الحزب الجمهوري بافتعال قضايا تعيد للواجهة مسألة المراسلات الالكترونية التي ستقيد حركتها وتحجم حيز المناورة لديها، كما شهدنا خلال فضيحة ووترغيت. الأمر الذي يضاعف المراهنة لاختيارها نائب رئيس ذو مؤهلات قوية باستطاعته إدارة دفة البيت الأبيض بفعالية ونضوج سياسي.

في الطرف المقابل، ليس مستبعداً أيضاً أن تطفو على السطح قضايا تلاحق دونالد ترامب ترتقي لمستوى الفضائح، خاصة بعد خضوع سجله "السياسي والتجاري" إلى الفحص والتدقيق وتنامي عدد الجهات والأطراف الراغبة بالاطاحة به.

الأحداث غير المرئية

ستعمل قيادات الحزب الديموقراطي على تفادي أي ارتباك أو اشتباكات قد تحصل داخل أروقة المؤتمر، والتي قد تتفاقم لمستوى الصدام الدموي ابان مؤتمر الحزب عام 1968، مما سيترك تداعيات سلبية على المرشح الفائز، على أقل تعديل.

حالة الاقتصاد المتردية، في نظر الكثيرين من الاخصائيين، ستشكل إحدى دوافع المشاركة الانتخابية، وأي هزة جديدة في هذا الشأن ستقلص حظوظ المرشحة كلينتون. ولنا في انتخابات عام 2008 سابقة تشهد على تقدم المرشح الجمهوري جون ماكين على منافسه باراك أوباما لحين أزمة سوق الأسهم المدوية في شهر أيلول/ سبتمبر من ذلك العام. الأمر إن تكرر حدوثه في الأشهر القليلة المتبقية فإن المرشح ترامب سيصعد بقوة إلى دفة الرئاسة.

وعلى الصعيد الخارجي، فإن الأزمات الدولية تستمر في طلب إهتمام القادة السياسيين، بصرف النظر عن حقيقة نواياهم لايجاد حلول حقيقية. ونظراً لاعتماد كلينتون على سجل خبرتها في الشأن الدولي، واتباع سياسة تستند إلى سياسات الرئيس أوباما الراهنة، فإن أي هزة تؤدي لوقوع قتلى بين صفوف الجنود الأميركيين، أو الأميركيين بشكل عام، من شأنها الإضرار بصدقية حملتها الانتخابية وتقليص حظوظ الفوز في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.