التطوّر الحلزوني لجماعات "الإسلام السياسي"

مَن يدرس تاريخ الجماعات والتنظيمات التي توظّف الإسلام لحيازة السلطة السياسية وتحصيل الثروة الاقتصادية يجد أنها تسير بشكل حلزوني مُتصاعد، فهي تُضرب إثر مواجهات مع الدولة فتتراجع إلى الوراء مُرغَمة، ثم لا تلبث أن تعود أوسع وأقوى مما كانت عليه، لتصبح حركتها عبارة عن دوائر مُتداخلة ومُتّسعة في اتجاهها إلى أعلى، بغضّ النظر عن المدى الزمني الذي يستغرقه اكتمال هذه الدائرة الناقصة.

لا يعود هذا التطوّر الحلزوني إلى الذكاء التنظيمي لهذه الجماعات إنما هناك عوامل عدّة تُغذّيه وتزكّيه وتقوّيه بعد أن تصنع وجوده.
قد تكون الضربة قويّة فتسقط هذه الجماعات إلى الخلف بعيداً لتصير دائرة صغيرة مُحاصرة، وقد تكون الضربة ضعيفة فتتراجع خطوات قليلة إلى الوراء. وإذا واتتها ظروف مُساعِدة تكون رحلة الصعود سريعة،  إما إن عاندتها فقد تستغرق هذه الرحلة زمناً طويلاً. في رحلة الصعود تلك تستفيد هذه الجماعات إلى حد ما من تجارب الماضي، ليس في تغيير وإصلاح الخطاب إنما في صناعة الحِيَل والتدابير الخفيّة في تعاملها مع السلطة، وأساليب التواصل المُجدي في تعاملها مع المحيط الاجتماعي بغية خداعه وجذبه إلى فضاء تلك الجماعات، التي لا ولاء لها إلا لنفسها، ولأفكارها التي تنطوي على تصوّرات وقِيَم سلبية تشدّ إلى الخلف. ولا يعود هذا التطوّر الحلزوني إلى الذكاء التنظيمي لهذه الجماعات إنما هناك عوامل عدّة تُغذّيه وتزكّيه وتقوّيه بعد أن تصنع وجوده، وهي هنا أشبه بمن يحمل زيتاً يصبّه على النار كلما خبت. وفي وضعها هذا باتت تلك الجماعات وكأنها العنقاء التي تُبعث دوماً عفيّة من تحت الرماد. أول هذه العوامل هي حاجة السلطات السياسية إلى تلك الجماعات فكلّما كانت تضعف بعد أن تتلقّى ضربة قويّة من سلطة حاكمة، تأتي سلطة أخرى لتقوّيها حين تستعين بها، لاستخدامها في ضرب التيّارات المدنية، يسارية وليبرالية ولتوظيفها فزّاعة في وجه كل مَن يُطالب بتداول السلطة وتوسيع المجال العام والتعدّدية السياسية واحترام حقوق الإنسان وصون الحريّات العامة، إذ تقول السلطة لكل هؤلاء: إن البديل لي هو الجماعات الدينية المُتطرّفة، وليس أمامكم من سبيل سوى الوثوق بي والوقوف خلفي فأنا الوحيدة القادرة على التصدّي لها وحمايتكم منها. وثاني هذه العوامل ويقع بيد السُلطة الحاكمة أيضاً، هو تفريغ الساحة من المنافسين السياسيين، حيث يحرص أهل الحكم دوماً على ضرب أية بدائل حقيقية لهم، لاسيما إن كانت من التيّار المدني وهذا يجعل أتباع "الإسلام السياسي" قادرين على أن يطرحوا أنفسهم طيلة الوقت بوصفهم "البديل"، بل يزيدون على ذلك ويقولون للناس إنهم يمثّلون "الحل" و"الوعد" والأمل" الذي عليهم أن يلتفّوا حوله، ويعوّلوا عليه ويعملوا على نُصرته بكل قدرتهم، أو على الأقل ما يتمكّنون من الجود به. والعامل الثالث له صلة بما سبق، إذ تستغلّ الجماعات الدينية السياسية الضعف المُزمن للتيّار المدني في الحفاظ على وجودها وقوّتها، وهو ضعف تقف خلفه عوامل ذاتية ترتبط بتشتّت المدنيين وهشاشة علاقته بقاع المجتمع وتراجع إمكاناتهم المادّية، أو بسبب عوامل من خارج هذا التيّار مثل الهجوم الضاري الذي يتعرّض له خطابه، أو استهدافه المُستمر من قِبَل السلطة الحاكمة، والذي يحرمه من تكوين حزب قوي على غِرار ما كان للوفد قبل 1952 في مصر. ولا يبتعد العامل الرابع عن كل هذا، وهو غياب "المشروع الوطني" الذي كان قادراً على جذب انتباه الناس وربطهم به، بما أضعف قدرة "الإسلام السياسي" على التعبئة والحشد.  فأيام كان هذا المشروع مُنصباً على الاستقلال الوطني والدستور الذي تبناه "حزب الوفد" بزعامة سعد زغلول ثم مصطفى النحّاس، إذ كان هو حزب الحركة الوطنية بامتياز القادر على خلق شبه إجماع شعبي حوله، بما قطع الطريق أمام تمدّد جماعة الإخوان رغم توظيفهم من قِبَل الإنكليز والملك وأحزاب الأقليّة لضرب "الوفد".  وتكرّر الأمر نفسه في اتجاه آخر حين كان هناك مشروع وطني تبنّاه جمال عبد الناصر، أخذ بعقول ونفوس وأفئدة الأغلبية الكاسحة من الجماهير، ولم تنجح الدعاية المضادّة من جماعة الإخوان في إكسابها أي تعاطف وقتها. وكل هذه السدود والحدود التي حالت دون تمدّد الإخوان في الخمسينات والستينات من القرن العشرين بعد أن تلقّوا ضربتين قويّتين من السلطة المصرية الحاكمة في 1954 و1965، سرعان ما انهارت مع انهيار المشروع الوطني الذي لم يكن يملكه نظاما السادات ومبارك ولا يزال غائباً حتى الآن.والعامل الخامس، هذه العوامل هي القوة المتواصلة التي يضخّها الخارج في أوصال هذه الجماعات والتنظيمات في سياق توظيفها لخدمة مصالحه. فمن المنشأ قامت هذه الجماعات على أكفّ الخارج، إذ لعب الاحتلال الإنكليزي دورا أساسياً في إنشاء "جماعة الإخوان المسلمين" في مصر، و"الجماعة الإسلامية" في الهند، وفق قاعدة "فرّق تسُد" التي برع الإنكليز في تطبيقها، وذلك لإجهاض الحركة الوطنية المدنية التي كانت تطالب بالاستقلال.  وعاد الأمريكان الذين ورثوا نفوذ الإمبراطورية البريطانية في العالم الإسلامي، ليوظّفوا هذه الجماعات في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، مثلما رأينا في حركة الجهاد الأفغاني التي حشدت إليها "سي. آي. إيه" عدداً هائلاً من شباب العالمين العربي والإسلامي، وبعدها جاءت "القاعدة" ثم "داعش" التي تتراكم الأدلّة والقرائن على أنها في جانب مهم وأساسي منها صناعة خارجية. ولأن القوّة الخارجية تستعمل هذه الجماعات والتنظيمات كـ "حصان طروادة"، الذي يُمكِّنها من أن تدسّ أنفها في شئون بلادنا، فهي حريصة كل الحرص على أن تبقى هذه الجماعات موجودة ومستمرّة وقويّة، ولذا تمدّ لها يد العون كلما تلقّت ضربات من السلطات الحاكمة، كي ترمّم نفسها وتشكّل تهديدا للسلطة، وتواصل وظيفتها التاريخية في إعاقة مجتمعاتنا عن التطوّر في اتجاه المدنية والتحديث. والعامل السادس هو استغلال التديّن المُنساب في المجال العام لجذبه نحو المشروع السياسي لهذه الجماعات. فكثير من الرؤى والمقولات التي تُطلق على المنابر وفي أروقة المعاهد الدينية والجمعيات القائمة على "الدعوة" تتماهى مع جوانب من مشروع "الإسلام السياسي"، وبالتالي تحرث الأرض أمامه وهو يلملم جراحه ويرمّم شروخه، ويسعى إلى العودة مرة أخرى ليصبح رقما ذا بال على الساحة الاجتماعية و السياسية. أما العامل السابع فهو أخطاء السلطة الحاكمة في التعامل مع الجماعات الدينية السياسية، إذ تُصرّ على أن الحل الأمني هو الأنجع، وتجهل أو تقلّل من قيمة الحلول الأخرى الأقوى والأرسخ. فمواجهة هذه الجماعات يجب أن تتأسّس على أن المعركة معها فكرية بالأساس، وهنا يبدأ دور التعليم والتثقيف والإصلاح الديني والإعلام في المواجهة، ثم هي معركة سياسية تتطلّب وجود حياة سياسية طبيعية تُصنع بمرور الوقت و البدائل المدنية. فإغلاق المجال السياسي واحتداد القمع والكبت يعطي فرصة للجماعات الدينية السياسية كي تنمو، مستغلة تعويق الآخرين الذين يفتقدون مع القمع أية فرص لتنمية وجودهم بالتواصل مع الناس، بينما لا يعدم "الإسلام السياسي" وسائل الوصول إلى الجمهور عبر منابر المساجد والجمعيات الخيرية والمناسبات الدينية.   لكل هذا نجد أن الجماعات الدينية السياسية وفي طليعتها جماعة الإخوان، امتلكت دوماً القدرة على "التطوّر الحلزوني" عبر التاريخ الحديث والمعاصر، بينما يعتقد المتعجّلون والغافلون من أهل الحكم مع كل ضربة يوجّهونها إليها أنها قد انتهت إلى الأبد مع أنهم لم يفعلوا ما يؤدّي على الأقل إلى تعويقها تماماً.