ترامب .. الإفراز الطبيعي لـ "العنصرية الأميركية"
حتى لو هزم ترامب في النهاية فإن المرحلة التي بلغها من السباق الرئاسي ستصبح دوماً دليلاً على تصاعد العنصرية في المجتمع الأميركي. وهي عنصرية لا تقف عند حد التمييز الجاري والساري داخل المجتمع الأميركي، لكنها تمتد لتنسحب على نظرة الأميركيين إلى العالم الخارجي، بما في ذلك أوروبا، التي يرونها "قارة عجوز"، أما نحن هنا في الشرق الأوسط، فحدث ولا حرج.
ماذا لو مر ترامب، سريعاً كما يحدث الآن، وظفر برئاسة الولايات المتحدة؟
حين نجد رجلاً بات على بعد خطوات قليلة من البيت
الأبيض يشيد بطريقة زعيم كوريا الشمالية، كيم يونج أون، فى التخلص من معارضيه،
نكون أمام سياسي أميركي يعشق الاستبداد في بلد يتيه على العالم بديمقراطيته،
وطالما يدعو الآخرين أن يحذوا حذوه. وحين نجد الرجل نفسه يصف الأميركيين من ذوي
الأصول الأفريقية بأنهم سبب زيادة معدلات الجريمة وانتشارها، والمكسيكيين بأنهم
مغتصبون وتجار مخدرات، فنحن أمام مثل ناصع عن أن حديث الولايات المتحدة عن نجاحها
في دمج الأشتات البشرية التي تشكل قوامها، مجرد أكذوبة.
هذا
الرجل هو دونالد ترامب مرشح الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية الأميركية، الذي
أثار حنق الأديب البيروفي الكبير ماريو فارجاس يوسا، الحاصل على جائزة نوبل في
الأدب عام 2010، فوصفه بأنه "مهرج غوغائي وعنصري " وقال "من
غير المقبول لدولة بهذا الثقل السياسي والأهمية مثل الولايات المتحدة أن يقودها
مثل هذا الشخص، إنه خطر عليها".
لا
يبدو ترامب، في حقيقة الأمر، حالة شاذة في الثقافة السياسية الغربية عامة، والتي
لم تفارق بعد عنصريتها ولا غرائبيتها بشكل كامل، إلى جانب الأعراض الجانبية للنظام
الرأسمالي في أعلى مراحل توحشه وساديته، التي سبق أن أنتجت الفاشية والنازية، اللتين
تتسللان إلى المجتمع الأوروبي من جديد.
لهذا
لم يكن من المستغرب أن يشبه الرئيس المكسيكي أنريكي بينا نيتو خطاب ترامب بخطاب الزعيم الألماني
النازي هتلر والزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني، حيث قال، رداً على مطالبة ترامب
للمكسيك ببناء سور على حدودها مع أميركا لمنع الهجرة غير الشرعية "هناك فترات في التاريخ
الإنساني لسوء الحظ أدى فيها هذا الخطاب الحاد الى مواقف خطيرة. فهذه هي الطريقة
التي تولى بها موسوليني وهتلر الحكم. فقد استغلا موقفاً أو مشكلة كانت الانسانية
تمر بها بعد أزمة اقتصادية".
وقد
تابع العرب والمسلمون تصريحات ترامب باستغراب ممزوج باستهجان، لكنهم لم يأخذوها
على محمل الجد، لأنهم اعتادوا أن تشهد الانتخابات الرئاسية الأميركية في كل دورة
شيئاً غريباً سرعان ما ينتهي تحت وطأة الواقعية الثقيلة التي تجعل من يصل إلى
البيت الأبيض من خارج هواة الفرقعات الإعلامية، والآراء الشاذة، والمواقف الغريبة،
واللامسؤولية السياسية.
لكن
ما إن أظهرت النتائج الأخيرة أن ترامب يتقدم الصفوف، ويتحول تدريجياً من افتراض
واحتمال إلى قائم وممكن، ثم إلى واقع مفروض، حتى أخذ المسلمون، الذين يعلن ترامب
جهاراً نهاراً عداءه لهم في داخل الولايات المتحدة وخارجها، يبدون مخاوفهم حيال
إمكانية أن يتمكن الرجل الذي صار مرشح الجمهوريين من خداع أغلب الناخبين
الأمريكيين فيصوتون له، فيصبح، في غفلة من الزمن، سيد البيت الأبيض، ومن ثم الرجل
الأقوى في العالم بأسره.
ابتداء
لا يجب أن نندهش من وجود أنصار كثر لترامب بين الأميركيين، فالعنصرية، التي يكسوها
أحياناً نوع من الفانتازيا السياسية، تتصاعد في المجتمعات الغربية، وعلى رأسها
النازية والفاشية والمكارثية، بما فتح دوماً باباً وسيعاً لعودة اليمين المتطرف
بقوة، وهي مسألة دلت عليها استحقاقات انتخابية شهدتها بلدان أوروبية عدة، في
مقدمتها فرنسا وألمانيا.
وحفلت
مئات الدراسات حول الديمقراطية الغربية بنقد شديد لها، لأنها في كثير من الأحيان
لا تأتي بالمعقول والمناسب والأصلح والأكفأ، إنما تخضع لركائز قوى جانحة وجامحة
يلعب فيها رجال الأعمال بشركاتهم، ووسائل الإعلام على تنوعها، دوراً مهماً في دفع
من يريدون إلى الأمام، وطرد من يشاؤون إلى الخلف.
وترامب نفسه يضرب مثلاً صارخاً على هذا، فهو رجل
أعمال وشخصية تلفزيونية ومؤلف، ساعد نمط حياته ونشر علامته التجارية وطريقته
الصريحة بالتعامل مع السياسة في الحديث على جعله من المشاهير، حيث قدم برنامح
الواقع على قناة إن بي سي The Apprentice ، وكانت له مساهمة في مسلسلات
وأفلام مثل: Home Alone 2: Lost in New York, The Nanny, The Fresh
Prince of Bel-Air, Days of our Lives)،
وكممثل(The
Little Rascals.)
فقد كان ترامب موضوع الكوميديين في أفلام الكرتون،
ولدى رسامي الكاريكاتير على الإنترنت،
وكان ضيفاً على البرامج الحوارية ومختلف وسائل الإعلام الأخرى. وفي
تشرين الأول/أكتوبر 2007، ظهر ترامب ظهر مع لاري كينج على شبكة "سي
إن إن" وراح يوجه انتقادات لاذعة، لجورج دبليو بوش، لا سيما في ما يتعلق الحرب على العراق. وفي 17 أيلول/ سبتمبر 2008، أيد ترامب رسمياً جون ماكين لرئاسة الولايات المتحدة..
أطروحات ترامب فيها قدر من التهور والخيلاء في السياسات الداخلية أو الخارحية
إن
ترامب يعبر عن ذروة الغطرسة الأميركية، التي يحاول آخرون التلطيف منها، والتهرب من
الحديث عنها أو تطبيقها بشكل ظاهر وخشن، وإن كانت أميركا قد عبرت عنها غير مرة
خصوصاً منذ حرب فيتنام حتى احتلال العراق، مروراً بمحطات لا تحصى في كل مكان، كان
لآخرين غير ترامب، أو من هم على شاكلته، دور كبير في صناعة قرار الولايات المتحدة
حيالها.
وترامب
يعبر عن جانب من الديمقراطية الأميركية، التي تصمها الكثير من العورات، جراء
التلاعب بالعقول الذي تقوم به وسائل الدعاية والإعلام وأدوات التسويق السياسي،
وتحكم المركب الصناعي، العسكري والمؤسسات الدينية، والترتيبات السياسية التي تجعل
أغلب قواعد اللعبة في يد الحزبين المهيمنين، الديمقراطي والجمهوري، واللذين
يتبادلان المناصب والمواقع في الرئاسة والكونجرس وغيرهما.
هذه
التركيبة تدفع إلى الواجهة الأعلى صوتاً وليس بالضرورة الأكفأ أو الأفضل، وإلا ما
وصل ممثل عادي جداً مثل رونالد ريجان إلى البيت الأبيض. أو نجح جورج بوش الابن،
الذي ما إن فاز حتى ظهرت صورته على غلاف مجلة "النيوزويك" وتحتها عبارة
"رئيس بالصدفة"، ويقال إن جدته حين أبلغوها بأنه قد صار رئيساً للولايات
المتحدة أبدت دهشة عارمة، وضحكت من أعماقها، وقالت "إنه أغبى أحفادي".
أما
الرئيس الأميركي ريتشارد نيسكون فقد تبين أنه مصاب بنوع من الفصام، كان يلقي به
كثيراً في نوبات من الاكتئاب الحاد، وغرابة التصرف والتفكير.
ربما
يكون ترامب متعصباً بالفعل ضد المسلمين، دينهم وأفكارهم وتوجهاتهم وركائز قوتهم في
المجتمع الأميركي، وربما يكون رجلاً ماكراً يستغل حالة العداء للعرب والمسلمين في
الغرب، جراء ما اقترفته بعض الجماعات والتنظيمات الإرهابية منذ حدث الحادي عشر من
سبتمبر 2001 حتى الآن، لتعبئة قطاع عريض من المجتمع الأميركي خلف مواقفه وشعاراته
وتشنجاته الطافحة.
لكن
ماذا لو مر ترامب، سريعاً كما يحدث الآن، وظفر برئاسة الولايات المتحدة؟ هل وقتها
يمكن لأميركا أن تتحمل نزقه طويلاً؟ وهل بوسعها أن تمضي مع مثل هذا الرجل بصفاته
التي أوردها الجمهوري ميت رومني الذي ترشح لانتخابات 2012 حين قال عنه إنه
"زائف ومحتال، وحاد الطباع، ويفتقر إلى الحكمة، وطماع، وغير صادق، وكاره
للنساء"؟
لا
أعتقد أن ترامب، إن فاز، سيكون بوسعه أن يذهب بعيداً في ترجمة أفكاره المتعصبة إلى
واقع، فأميركا، رغم كل شيء، بلد تحكمه مؤسسات، وتسيطر على سياساته تقاليد متوارثة،
وتضبط إيقاعه توازنات داخلية وخارجية، ليس بوسع الرئيس، مهما بلغت درجة تطرفه أو
استقلاليته، أن يتجاوزها بهذه البساطة.
فأطروحات
ترامب فيها قدر من التهور والخيلاء سواء في السياسات الداخلية أو الخارحية، فهو
يهدد بترحيل المهاجرين غير الشرعيين ومنع دخول المسلمين إلى الأراضي الأميركية
فإنه يهاجم النساء بضراوة ويتحدث عن الإجهاض بما يخالف ما يعرفه الأميركيون، ويرفض
التشديد على منع حيازة الأسلحة للمواطنين بدعوى مساعدتهم على منع وقوع أعمال
إرهابية، ويدعو لزيادة الاقتراض لإنعاش اقتصاد بلاده، ويطرح حلاً في حالة ظهور أزمات
تقضي بخفض عوائد الدائنين على سندات الخزانة، ويهاجم الإعلام ويتهمه بتضليل الناس.
وفي السياسات الخارجية أعلن أنه بمجرد انتخابه
سيطلب من الكونجرس إعلان الحرب رسمياً على الإرهاب ضد من وصفهم بـ "المجهولين
المعتنقين للعنف" ولذا سيوجه الجيش الأميركي لسحق تنظيم داعش، وأيد استخدام
وسائل التعذيب فى استجواب المشتبه بهم. وذهب إلى مدى واسع في مساندة إسرائيل فقال
"عندما أصبح رئيساً فأول ما سأقوم به هو التوقف عن معاملة إسرائيل وكأنها
مواطن من الدرجة الثانية" وسينحاز إليها بشكل واضح وقاطع في أي مفاوضات لها
مع الفلسطينيين، ووعد بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وطالب
السعودية بأن تدفع لأميركا مقابل حمايتها من إيران، وأنه سيلغي الاتفاق النووي
الذي أبرمه الغرب مع طهران، وهاجم حلف "الناتو" واصفاً إياه بأنه
"عتيق" واتهم أعضاءه بأنهم "لا يسددون حصتهم العادلة" مقابل
قيام بلاده بحماية دوله.
كل ما سبق يعني، في شكله المباشر والظاهري، أن
السياسات الأميركية ستتغير فجأة، وهذا من الصعب تحققه بهذه العجلة، وذلك التهور،
وتلك الرؤية الجذرية إلى حد كبير. لكن، وكما سبقت الإشارة، لن تكون يد ترامب مطلقة
في ترجمة جموح كلماته إلى جموح في التدابير والتصرفات.
قد
يكون ترامب كابوساً، أو لعبة خلقتها الظروف، لينفتح الطريق للمرة الأولى أمام
امرأة لتكون رئيساً للولايات المتحدة. لكن حتى لو جرت الأمور على هذا النحو، فلن
يكون بوسع الناس في أميركا وخارجها أن يتجاهلوا أن رجلاً بهذه الصفات السيئة قد
تقدم الصفوف، وصار فرس رهان، بعد أن تمكن من إقناع كثيرين داخل حزبه من أن يعتقدوا
في جدارته برئاسة أميركا، وتلك هي المأساة التي لن تمحوها بسهولة نتائج الانتخابات
الداخلية في الحزب الجمهوري، أو النتائج العامة للانتخابات الرئاسية، لاسيما بعد
أن صعد ترامب ليكون هو مرشح الجمهوريين في وجه هيلاري كلينتون.
فحتى
لو هزم ترامب في النهاية فإن المرحلة التي بلغها من السباق الرئاسي ستصبح دوماً
دليلاً على تصاعد العنصرية في المجتمع الأميركي، وهي صفة سيئة لا تقتصر على ترامب،
ولا على الجمهوريين، إنما تعشش في رؤوس كثيرين من الشعب الأميركي، والأهم في رؤوس
كثير من الساسة، وهي عنصرية لا تقف عند حد التمييز الجاري والساري داخل المجتمع
الأميركي، لكنها تمتد لتنسحب على نظرة الأميركيين إلى العالم الخارجي، بما في ذلك
أوروبا، التي يرونها "قارة عجوز"، أما نحن هنا في الشرق الأوسط، فحدث
ولا حرج.