"داعش" في القارّة السمراء ... على خُطى "القاعدة" وأعوانها

تواجد داعش أو تنامي نفوذها يُسبّب أخطاراً شديدة على الأمن الأفريقي وعلى الأوضاع السياسية لكثير من دوله، ويؤثّر سلباً على إمكاناتها الاقتصادية، فالاستثمارات تهرب من أي مكان يعاني من الاضطراب والسيّاح لا يذهبون إلى مناطق تعجّ بالفوضى، وأهل أي بلد لا يلتفتون إلى العمل والموت والتشرّد يقف لهم على كل الأبواب.

تمكن داعش من الحصول على بيعة من "بوكو حرام"
لم ينبت تنظيم "داعش" في التربة الأفريقية لكن ما بها من تشقّقات وانهيارات وأشباه ونظائر لهذا التنظيم فتح الباب أمام تواجده ونموه وتمدّده بشكلٍ لافت وفي زمن قصير، فساح في خريطة تضم دول الشمال الأفريقي العربية مثل ليبيا وتونس والجزائر، ويلاقي هوى لدى مصريين ومغاربة بعضهم سافر بالفعل إلى سوريا، ثم يهبط جنوباً إلى السودان وأفريقيا الوسطى، وغرباً إلى تشاد والنيجر ومالي، ثم ينحرف نحو نيجيريا حيث تنظيم "بوكو حرام" الذي أعلن زعيمه أبو بكر شيكاو بيعته لداعش في تسجيل صوتي لاقى ردود أفعال في شتّى أنحاء العالم.
ويعتمد داعش في تمدّده بين ربوع القارّة السمراء على ثلاثة عناصر أساسية يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 ـ وراثة القاعدة: فعقب حادث 11 سبتمبر 2001 تمكّن تنظيم القاعدة من بناء شبكة تابعة له منتشرة في أكثر من بلد أفريقي، لاسيما البلدان التي يشكّل المسلمون أغلب أو نسبة مُعتبرة من سكّانها، لكّن القاعدة فقد القدرة تدريجاً على التحكّم في أطرافه، وتحوّل من تنظيم يعرف تسلسل الأمور التي تحرّكه صعوداً وهبوطاً، إلى مجرّد فكرة مبثوثة في العالم الافتراضي، وضاع بريقه في عيون المتطرّفين حين تراجعت إمكانيته على تنفيذ أعمال إرهابية. فلما ظهر داعش وقدّم لأول مرّة في التاريخ الحديث والمعاصر نموذجاً لتنظيم ديني مسلّح بوسعه أن يُقيم دولة على مساحة جغرافية واسعة، بات هو صاحب البريق الذي خطف أبصار جماعات وتنظيمات متطرّفة فنقلت بيعتها من القاعدة إلى داعش.
2 ـ إشاعة الفكرة: وفكرة داعش التي تبدو مُلهمة لتنظيمات دينية متطرّفة عدة في أفريقيا ليست بالطبع نظرية عميقة ولا أيديولوجية مُحدّدة الملامح والقِوام إنما هي "فكرة عملية" أو رؤية من الممكن تحويلها إلى إجراءات في الواقع. فداعش استعارت بعض الأفكار التاريخية حول "جهاد الطلب" و"الخلافة" و"الولاء والبراء" و"تطبيق الشرع" وتقسيم العالم إلى "دار إسلام ودار حرب" لتستعملها ابتداء في إطلاق مشروعها الذاهب إلى بناء دولة على أنقاض وأشلاء، ثم تتخفّف منها وتدوس عليها بالأحذية الغليظة لحاملي البنادق والقنابل.  ومثل هذه الفكرة يمكن لداعش أن يسوّقها بسهولة للجماعات والتنظيمات المتواجدة بالفعل في بعض البلدان الأفريقية، وكذلك للأفراد غير المنتظمين الذي يتبنّون الرؤية "السلفية الجهادية" بوجه عام، ويتواصلون مع تصوّرات داعش وتصرّفاته عبر شبكة الإنترنت.

3 ـ استغلال الفشل: فالتنظيمات المُتطرّفة والإرهابية النازعة إلى تحصيل السلطة السياسية تجد دوماً في الدول الفاشلة والرخوة والمتعثّرة والتي يعاني فيها الحكم من أزمة شرعية أرضاً مُناسبة كي تدفع مسارها قدماً وتجنّد أنصارها. وداعش ليس استثناء من هذه الحال فهو تنظيم يبدأ نشاطه في مناطق تتراخي فيها قبضة الدولة المركزية، أو توجد مشكلات بين سكّانها وبين السلطة الحاكمة لأسباب عرقية أو جهوية أو مذهبية أو سياسية أو طبقية. ونظراً لأن عدة دول أفريقية تعاني من هذه النقائص وتواجه أزمات حادّة لا تلوح في الأفق أية بوادر حقيقية لحلّها، فتنفجر بالفوضى والاضطراب، ويجد داعش في هذا المناخ فرصة سانحة كي يحمل السلاح ويجمع حوله الغاضبين والحانقين والرافضين والراغبين في إسقاط السلطة أو حتى إسقاط الدولة نفسها. وهناك مَن ينظر إلى داعش كما كان ينظر إلى القاعدة، بالعين ذاتها التي ترى "شركات مُتعدّدة الجنسيات" تتناثر حول مقرّها الرئيسي فروع في دول عدة. فداعش إن كان مركزه العراق لأنه الطور الرابع من جماعة "التوحيد والجهاد" التي أنشأها أبو مصعب الزرقاوي هناك، ثم صار "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" وتحوّل بعدها إلى "إماراة العراق الإسلامية" وبعدها اشتدّ ساعده وقويت شوكته ليصير "الدولة الإسلامية في العراق والشام". 
ومن هذا المركز بدأ التنظيم يجذب إليه جماعات في قارات عدة ومنها أفريقيا. وفي القارّة السمراء يضم "داعش" تنظيمات صغيرة أعلنت ولاءها له وانحدرت تحته راضية، مثل تنظيم "أنصار بيت المقدس" في شبه جزيرة سيناء المصرية  والتي جاء جزء منها من قطاع غزّة واندمج مع جماعة "التوحيد والجهاد" المحلية. 
 وتوجد "جند الخليفة" في الجزائر وهي كانت جماعة تابعة للقاعدة ضمن فرعه الذي يُسمّى: "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، لكّنها لم تلبث أن انشقت عن القاعدة وأعلنت على لسان أمير منطقة الوسط خالد أبوسليمان مبايعة داعش، لتدخل بعدها في صراع ضدّ الدولة لا يزال مستمراً رغم فقدانها بعض مقاتليها على رأسهم قائدها قوري عبد المالك، الذي قتله الجيش الجزائرى في مواجهات دامية بين الطرفين، وهذه الجماعة مسؤولة عن قتل أحد الرهائن الفرنسيين في سبتمبر من العام الماضي. 
 وهناك تنظيم "أنصار الشريعة" في تونس الذي نفّذ عمليات إرهابية ضدّ الجيش في جبل الشعانبي، وكان وراء الهجوم على متحف باردو في 18 مارس من العام الجاري والذي قُتل فيه ثلاثة وعشرون شخصاً وأُصيب خمسون آخرون. ويوجد في تونس أيضاً تنظيم "كتيبة عُقبة بن نافع" الذي انشقّ عن تنظيم القاعدة وبايع داعش ويتبنّي أفكاراً "سلفية جهادية". 
أما تنظيم داعش في ليبيا فيضمّ بين صفوفه آلاف المقاتلين من بلدان شمال أفريقيا وغيرها، ويحاول أن يتمدّد إلى مصر شرقاً، وتونس والجزائر غرباً، وهو المسؤول عن ذبح مصريين وأثيوبيين والدخول في معارك طاحنة ضدّ الجيش وجماعات أخرى ثورية ودينية. 
وبينما يُغازل "داعش" تنظيم "حركة الشباب" في الصومال كي ينضم إليه فإنه تمكّن من الحصول على بيعة من "بوكو حرام" في نيجيريا، وهي إن كانت لا تعني انضواء هذا التنظيم الذي ارتكب جرائم بشعة ضدّ نيجيريين من المسلمين والمسيحيين وكذلك أجانب، فإنها ستوفّر لداعش مكاناً آمناً للتدريب وتخزين السلاح وتجنيد المرتزقة وجذب السلفيين الجهاديين  وتيسير التحرّك شرقاً نحو السودان، حيث صدر تقرير للجنة تابعة للأمم المتحدة تحذّر من تحوّل إقليم دارفور إلى ملاذٍ آمنٍ للإرهابيين، وشمالاً نحو غانا والسنغال وصولاً إلى موريتانيا والمغرب. 
وقد سبق لداعش أن أعلن السودان ودول شمال أفريقيا ولايات تابعة له من الناحية النظرية على الأقل. وفي مالي تمكّنت جماعة متطرّفة تحمل الأفكار ذاتها التي يعتقد فيها تنظيم "داعش" وتسلك طريقه الدموي والتخريبي، من اقتطاع جزء من أرض البلاد في مطلع عام 2013 وأعلنت عليها إمارة إسلامية، ثم بدأت تزحف نحو العاصمة مُدمّرةً في طريقها الآثار الإسلامية ومستولية على أماكن تمركز الجيش ومؤسّسات الدولة، لكن الغرب تدخّل سريعاً خاصة فرنسا التي حصلت على شبه تفويض دولي بالتصدّي لهذه الجماعة، وتمكّنت من هزيمتها، وأبقت على نحو ثلاثة آلاف جندي فرنسي هناك، فيما تنسّق أمنياً مع النيجر وبوركينا فاسو والجزائر، للحيلولة دون أن تجد هذه الجماعة ملاذاً آمناً على أرض مالي. 
ويترك تمدّد "داعش" في أفريقيا آثاراً شديدة السلبية على الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية في القارّة السمراء، إذ يُعرِّض بعض الدول الهشّة للانهيار ويزيد من متاعب الجيوش وقوات الأمن في أخرى، ويسبب إزعاجاً شديداً للسلطات والمجتمعات في ثالثة.
فدولة مثل ليبيا قد لا يلتئم شملها مرة أخرى، فتستعيد تماسكها وتوحدها، إن بقي لداعش وجود قوي على أرضها. وتونس تخشى عمليات إرهابية أخرى سواء ضدّ الجيش أو بعض مؤسّسات الدولة، خاصة أن جماعات تابعة لداعش هناك تسعى جاهدة إلى نقل الصراع إلى شوارع العاصمة. 
والجزائر التي عاشت عشرية دموية سقط فيها ما يربو على مائة ألف قتيل، تبدو غاية في الحذر حيال أي نفخ في أوصال الجماعات التي لم تضع السلاح وتنضوي ضمن "الوئام الوطني" وبايعت داعش. ومصر تدفع كل أسبوع تقريباً شهداء في مواجهة الجيش مع "تنظيم بيت المقدس" سواء داخل سيناء أو خارجها، علاوة على عمليات إرهابية متفرّقة في شتى أنحاء البلاد، تنفّذها جماعات إما تابعة لداعش أو مُعجبة بتجربته ضدّ رجال الشرطة والقُضاة والمنشآت الحكومية والمؤسّسات الاقتصادية والخدمية والسياحية. والمملكة المغربية تتّخذ كل الإجراءات الممكنة للحيطة والحذر بعد أن انضم بعض شبابها إلى داعش في سوريا. 
 وإذا كان أيمن الظواهري قد نصح "حركة الشباب" في السودان ألا تترك "القاعدة" وتنضم إلى داعش، فالباب مفتوح أمامها في أي وقت لإهمال هذه النصيحة، وفي كل الأحوال فإن تلك الحركة تساهم في استمرار الصومال دولة فاشلة، حين تعيث في أرضه فساداً وترتكب العنف ضدّ أهله ومؤسّساته، ويمتدّ أذاها إلى دول أخرى مجاورة مثل كينيا التي تعرّضت لثلاث هجمات دامية في السنوات الثلاث الأخيرة على يد الحركة، أولها في سبتمبر من عام 2013 واستهدف مركزاً للتسوّق في العاصمة نيروبي وقتل فيه 67 شخصاً، وثانيها في نوفمبر 2014 حيث أعدمت الحركة 28 راكباً في حافلة شمال شرق كينيا، رداً على العمليات التى تنفّذها الشرطة الكينية ضدّ مساجد مومباسا على الساحل، والثالثة كانت في شهر إبريل من العام الحالي ضدّ طلاب جامعة "جارسيا" وأسفرت عن مقتل 15 طالباً وإصابة ثلاثين آخرين بجراح متفاوتة.

ويشكّل انتشار "داعش" في غرب أفريقيا خطراً داهماً على تأمين تدفّق النفط الذي ظهر بقوّة في السنوات الأخيرة إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية، وبالتالي سيفتح باباً جديداً لتدخّل دولي هناك إن تنامى نفوذ هذا التنظيم. فالولايات المتحدة أبدت اهتماماً شديداً بأفريقيا بعد طول إهمال لاسيما دول غرب القارة، بعد أن بيّنت المسوح الجيولوجية أن هذه الدول تمتلك احتياطات وفيرة من النفط الخام.
وكانت واشنطن تتصوّر أن النفط الأفريقي يتمتّع بأمان نسبي، وهي مسألة تبدو من قبيل التفاؤل المُفرِط وليست حقيقة واقعية بأية حال من الأحوال. فدول غرب أفريقيا تعاني من انقسامات عرقية وقبلية وخلافات دينية ومشاكل حدودية وصراعات داخلية مع الأنظمة الحاكمة، تجعل من الصعب عليها أن تتمتّع بهذا الأمان المُفترض. وإذا كانت وسائط نقل النفط من هذه المنطقة تستمد أمانها من كونها تنطلق في البحار المفتوحة ولا تمرّ عبر مضائق، فإن المنشآت النفطية ذاتها عُرضة لهجمات خلال أية اضطرابات تشهدها دول غرب القارّة، كما إن الإمدادات النفطية ذاتها من الممكن أن تتوقّف أثناء وقوع هذه الاضطرابات. 
علاوة على إمكانية تعرّض الأنابيب النفطية المنتشرة في بعض دول القارّة لهجمات مثل ما يحدث في نيجيريا، أو بالنسبة للأنبوب الجاري إنشاؤه لنقل النفط من جنوب تشاد إلى ميناء دوالا الكاميروني الواقع على خليج غينيا المتّصل بالمحيط الأطلسي والذي يبلغ طوله 1070 كيلومتراً، وتصل تكلفته إلى 4 مليارات دولار، أو الأنابيب التي تنقل النفط الأنغولي إلى موانئ التصدير على المحيط الأطلسي. 
 ويمكن لتنظيمات مُتطرّفة تابعة لداعش أن تندمج في عملية استهداف وسائط نقل الطاقة في أفريقيا سواء النفط أو الغاز، فتفجّرها إن لم تتمكّن من الإستيلاء عليها وتستغلها إن تمكّنت، على غرار ما جرى في العراق وسوريا حيث حوّلت آبار ومصافي نفط في البلدين إلى مصدر رئيسي لدخلها من خلال بيعه في السوق السوداء. 
من هنا فإن تواجد داعش أو تنامي نفوذها يُسبّب أخطاراً شديدة على الأمن الأفريقي وعلى الأوضاع السياسية لكثير من دوله، ويؤثّر سلباً على إمكاناتها الاقتصادية، فالاستثمارات تهرب من أي مكان يعاني من الاضطراب والسيّاح لا يذهبون إلى مناطق تعجّ بالفوضى، وأهل أي بلد لا يلتفتون إلى العمل والموت والتشرّد يقف لهم على كل الأبواب.