الثعلب والذئب: أردوغان في دمشق والقاهرة
ما يُقال أمام الشاشات ليس كل الحقيقة. ما يُطبخ على طاولات المفاوضات وساحات القتال أعمق. مسألة تقارب قبرص مع إسرائيل من أجل الغاز كانت مُحرّكاً أساسياً. ليس صدفة بتاتاً تزامن اعتذار أردوغان من بوتين مع توقيع اتفاق التطبيع التركي الإسرائيلي. استقالة أحمد داوود أوغلو، وحالياً التضحية بكاتم أسرار أردوغان، حقّان فيدان؛ بداية انعطافة كبرى سيُجريها أردوغان. مصالح الدول أهم من المبادئ والمواقف.
بداية انعطافة كبرى سيجريها أردوغان
تفوّه رجب طيب أردوغان وليس غيره
بالتالي: بشّار الأسد سفّاح. عبد الفتاح السيسي انقلابي قاتل. بنيامين نتنياهو
إرهابي مُجرم. وحين استمع خالد مشعل إلى هذه العبارات أصابته نشوة محمّد الفاتح
حين فتح القسطنطينية.
عاد واستمع إلى أردوغان يقول: سأصلّي في المسجد الأموي مُحرّراً. سأزور الأزهر
مُطهّراً من "اللعين" أحمد الطيب. أتاني المسجد الأقصى في المنام وبكيت
كطفل صغير. عرف أبو الوليد أن هذا الكلام للتحشيد والتأييد وأسرع إلى إسطنبول حين
سمع أخباراً تُفيد باتفاق بين تركيا وإسرائيل يُطبّع العلاقات. تفهّم مصالحة
المصالح وطلب منه أردوغان بعض الأمور؛ أهمّها إعادة الجنود الإسرائيليين الأسرى في
غزّة وإقناع ذوي 11 شهيداً تركياً قضوا في سفينة مافي مرمرة بإنهاء الدعاوى
القضائية. فعل الأخيرة، بانتظار صفقة تبادل الأسرى غير البعيدة.
تعرف قيادة حماس أن أردوغان ارتدى عباءة
الأخوان ومعها فلسطين لأهداف تركيّة في المقام الأوّل. والجماعة ألبسته عمامة
السلطان الإسلامي وأرادت منه أكثر مما عرض أو يستطيع. فالأسير شاؤول آرون قبل أسره
كان يأكل مع زملائه القَتَلَة وَجَبَات تركيّة. صحيفة "يديعوت أحرونوت"
كتبت سابقاً تحقيقاً حول وَجَبَات الطعام خلال العدوان على غزّة عام 2014، مؤكّدة
أنها إنتاج شركة Elmacik التركيّة. ويعلم قادة "القسّام" أن
الأسير هدار غولدن (ابن خال موشيه يعالون، وملازم ثان في لواء جفعاتي) لو لم تأسره
المقاومة كان يمكن أن يكون ضمن 74 ألف إسرائيلي زاروا تركيا للسياحة عام 2015.
يُدرك اسماعيل هنيّة أنه حين رُفعت صورته مع أردوغان في غزّة وكتب في أسفلها
"فلسطين تنتظر الرجال"، أن بُراق رجب طيّب أردوغان يمتلك شركة نقل بحري
ولم تتوقّف سُفنه عن الرسو في ميناء حيفا ولو لأسبوع واحد. وكذلك استمرّت شركة
بلال رجب طيّب أردوغان في نقل النفط والغاز من وإلى إسرائيل. والأهم، أن محمّد
الضيف يتأكّد يوماً بعد آخر أن علاقات الجيشين الإسرائيلي والتركي تزدهر أكثر
فأكثر من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية والمناورات الدورية والصناعات
العسكرية. وهذا ليس غريباً فمدرّعة "فوران" الإسرائيلية هي نفسها
"جيهان" التركية، وتم عرضها في معرض الصناعات الدفاعية عام 2011. إذاً
لم يصل الخلاف التركي الإسرائيلي إلى حدّ الطلاق بل كان هُجراناً مؤقتاً بقيت
خلاله صلة الوصل موصولة ولم تنقطع. لكن لماذا إعلان تطبيع العلاقات؟
ما يُقال أمام الشاشات ليس
كل الحقيقة. ما يُطبخ على طاولات المفاوضات وساحات القتال أعمق. مسألة تقارب قبرص
مع إسرائيل من أجل الغاز كانت مُحرّكاً أساسياً. ليس صدفة بتاتاً تزامن اعتذار
أردوغان من بوتين مع توقيع اتفاق التطبيع التركي الإسرائيلي. استقالة أحمد داوود
أوغلو، وحالياً التضحية بكاتم أسرار أردوغان، حقّان فيدان؛ بداية انعطافة كبرى
سيُجريها أردوغان. مصالح الدول أهم من المبادئ والمواقف. توسّط نتنياهو لأردوغان
عند بوتين في الاجتماعات الأخيرة كي يقبل التعويضات والاعتذار المكتوب. بعدها
بوتين سيتوسّط لأردوغان عند السيسي والأسد.
هذا كله يترافق مع تقارب إيراني تركي،
هذا اتّضح في اتصال بن علي يلدريم مع إسحاق جهانغيري وهو نائب الرئيس الإيراني حسن روحاني.
المطلوب حالياً: انفتاح تركي على الخصوم والأعداء لإيجاد حلٍ وسط في كل القضايا
عبر مخرج لائق. لا بأس إن تمّت التضحية بقطاع غزّة ونشاط حماس في تركيا. لا مانع
من نسيان محمّد مرسي والأجندة الأخوانية ومعهما المعارضة السورية. ليس مطلوباً
تعاون أكثر من أجل سوريا. أساساً التنسيق موجود: دعم إسرائيل وتركيا لجبهة النصرة
خير دليل وعليه أكثر من دليل. الخطر أكبر من بقاء تركيا موحّدة: داعش يفجّر بشكل
شبه يومي في الأرض التركية. الكرد مدعمون من روسيا والولايات المتحدة يتقدّمون
وقريباً يعلنون إقليماً مستقلاً في سوريا. مَن سيقف في وجه ذلك؟ وحدها: الحكومة
السورية ومعها الإيرانية والعراقية. الهاجس الكردي يؤرق أردوغان، فلا بدّ من
التحرّك بسرعة. فلا عجب إن التقى أردوغان بحيدر العبادي أو بشّار الأسد. وليكسب
غاز المتوسّط والعمق العربي لا بدّ من الاقتراب أكثر من عبد الفتاح السيسي.
السياسة لا تُبنى على عداوة أبدية. الدول دائماً لديها ميزان تحسب فيه المكاسب
والخسائر. أما عن خالد مشعل وإخوانه مَن وجدوا تبريرات اقتصادية وسياسية لصلح
أردوغان ونتنياهو بدل الدينية والعاطفية، لا بدّ لهم من معرفة الثعلب من الذئب.
فالقاتل يمكن أن يتفّق مع قاتل مثله أو مع ضحيته. ويمكن أن يعلّمه أيضاً. فمرّة
قال الذئب للثعلب: نحن نتشابه في الشكل لكنك معروف بالدهاء أكثر؛ لذلك أريدك أن
تعلّمني قليلاً.
فردّ الثعلب: إرمِ نفسك في
تلك الحُفرة.
أجاب الذئب: إنها عميقة.
ومع ذلك رمى نفسه فيها.
وعند خروجه قال: لقد كسرت
قدمي.
فأجاب الثعلب: إنه الدرس
الأوّل؛ لا تثق بثعلب أبداً.