خيارات السلطة المصرية بعد ثلاثة أعوام من إطاحة حكم "الإخوان"
بدو خيار الانتصار للثورة من قبيل "التفكير بالتمنى"، لاسيما أن كثيراً من تصرفات السلطة الحالية هي أقرب لإرادة وتصورات "القوى المضادة للثورة"، خاصة مع تواطئها وصمتها على تشويه ثورة يناير، ومطاردتها لرموزها وشبابها بأكثر من طريقة تتراوح بين السجن والاستبعاد من دوائر القرار مروراً بالاغتيال المعنوي، وقبل كل هذا عدم ترجمة أحلام شبابها في إقامة دولة مدنية حديثة إلى خطط وبرامج وقرارات وإجراءات.
بعد الإطاحة بحكم الإخوان وجدت السلطة نفسها في مواجهة إرهاب الجماعات المتطرفة والتكفيرية
قبل أيام انشغلت وسائل الإعلام
في مصر بحلول الذكرى الثالثة لإطاحة حكم الإخوان، وغلب على انشغالها استعادة تفاصيل
الحدث الذي بُني على أكتاف ملايين فاضت بهم الشوارع وتدخل الجيش ليعزل د. محمد مرسي،
ثم تبدأ مرحلة تعقب عناصر الجماعة، ومحاكمتهم، وتفكيك تنظيمهم الحديدي، أكثر من انشغالها
بالسؤال الأهم: ما حال الحكم الذي أعقب الإخوان بعد مرور كل هذا الوقت الحافل بالأحداث
والوقائع؟
ابتداء فإن أقرب نظرة أو أكثرها
تعجلاً ليس بوسعها أن تنكر أن صورة هذه السلطة ونفوذها القائم على الطوعية والاقتناع
لم يعد كما كان في الشهور التي أعقبت تغييب حكم "الإخوان"، كما أن علاقتها
بالمسار الثوري الذي انفجر في 25 يناير 2011 أخذت تتكشف بشكل جلي، وفي الوقت نفسه فإن
إدراكها لمسائل من قبيل "الحفاظ على الدولة" و"إقامة الحكم المدني الحديث"
و"الديمقراطية" و"التنمية" بات أوضح في ذهنية الشعب ومخيلته مما
كان عليه وقت أن كانت العواطف ملتهبة بنبذ الإخوان، والثقة في تغير الأحوال بعد رحيلهم.
بعد أن جرت في نهر السياسة المصرية مياه غزيرة عاد سؤال المصريين عن المصير الذي ستؤول
إليه البلاد، وعاد الحديث عن المسارات التي يمكن أن تسلكها السلطة الحالية، بعد أن
هدأت العواطف حيالها، وتراكمت أفعالها وتصرفاتها وتدابيرها بما أوجد فرصة لتقييمها،
بل السعي إلى تقويمها، لاسيما في ظل الأزمات الاقتصادية المتوالية، والانفراد بالقرار
السياسي، ومجافاة الدستور أو إهماله، وسجن الآلاف من شباب الثورة، وإلحاق ضرر بالغ
بحقوق الإنسان، وتقييد الحريات العامة، وعدم وجود إرادة واضحة وقاطعة في محاربة الفساد،
وعودة الممارسات المتجاوزة للقانون التي يقوم بها جهاز الشرطة، والاستمرار في سياسة
تفزيع الشعب تحت دعايات عن "المؤامرة على مصر"، وغياب أي بديل للحكم الحالي.
في ضوء ما سبق، تقود قراءة السياق الذي يحكم العملية السياسية إلى الاعتقاد أن السلطة الحاكمة في مصر تواجه ثلاثة خيارات أساسية، على النحو التالي:
1ـ خيار الحفاظ على نظام الحكم بأي ثمن: ليس من قبيل التجني أن نقول إنه لم يحدث، إلى الآن، تغيير جوهري أو جذري وعميق في نظام حسني مبارك، فقد ذهب هو أو سقط عن عرشه، وبقيت "المباركية" طريقة في تفكير السلطة، وأسلوب عمل لأجهزة الدولة ومؤسساتها، ثم راحت تختلط، مع السيسي، بالجوانب السلبية من الساداتية.
وقد يرجع هذا بالأساس إلى أن من تولوا الحكم عقب خلع مبارك لم يكن في حسبانهم أو في نيتهم الاستجابة لمطالب الثورة، فالمجلس العسكري الذي تسلّم الحكم في 11 فبراير 2011، تعامل مع ما بدأ في 25 يناير بوصفه مجرد انتفاضة ضد التوريث، وكان همّه الأساسي هو الحفاظ على تماسك كيان الدولة الذي تعرض لهزة عنيفة، فضلاً عن افتقار أعضاء هذا المجلس إلى الخبرة الكافية لإدارة شؤون الحكم، وكذلك طبيعة الجيش كمؤسسة "أمنية بيروقراطية" تعتقد أن المجتمع يجب أن ينتظم على شاكلتها، لذا فهي لا تحبذ تعددية الآراء والمواقف واختلاف المشارب والمناهل والتوجهات.
من أجل هذا، حاول المجلس طوال الوقت "تبريد الثورة" وخفض سقف مطالبها أو تفريغها من مضمونها تدريجياً، بل تشكيك الناس فيها، لدفعهم إلى التخلي عنها، وبالتالي إهمال مطالبها، وفي مقدمتها الحرية، والعدالة الاجتماعية، واستقلال القرار الوطني.
وجاء حكم جماعة الإخوان، فلم يترجم هذه المطالب إلى واقع عملي، لأن الإخوان اعتبروا الثورة "فرصة" تاريخية منحها الله عبر الشعب لهم للانتقال من "مرحلة الصبر" إلى "مرحلة التمكين" سريعاً، فضلاً عن أنهم من المنشأ أو الأساس لم يكن لديهم أي بدائل حقيقية عما كان يجري قبل ثورة 25 يناير.
وبعدما أطيح بحكم الإخوان، مرت مصر بمرحلة انتقالية أو تأسيسية جديدة، لتجد السلطة نفسها في مواجهة موجة أخرى من إرهاب الجماعات المتطرفة والتكفيرية التي تحالفت مع الإخوان، وتستفيد من إمكانياتهم المادية أو من المظلة السياسية التي يوفرونها تحت لافتة تسمى "الدفاع عن الشرعية"، حتى لو كانوا يختلفون مع الإخوان فكراً وتنظيماً.
وتحت ذريعة ألا صوت يعلو فوق صوت "مكافحة الإرهاب" وجدت السلطة السياسية التي يأتي على رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي مبرراً تسوقه لعموم الناس بأن الوقت لا يسمح بترف اسمه "إنجاح الثورة"، ولا سيّما أن المعركة مع الإخوان كانت لاسترداد الدولة التي أصبحت إبان عهدهم في خطر، ولا يزال هذا الخطر مستمراً من وجهة نظر السيسي ليس على أيدي الإرهابيين فحسب، بل بفعل المؤامرات الخارجية أيضاً، رغم أن السلطة نفسها بدأت تتحدث عن احتمالات المصالحة مع الإخوان، وتحسن العلاقة مع الخارج.
2ـ خيار الانتصار للثورة: هذا الخيار هو أكثر الخيارات نجاعة في كسب الشرعية وتعزيز رضا الجماهير والحفاظ على تماسك الدولة وغلق الطريق أمام إعادة الأمور إلى الوراء، سواء بعودة المباركية أو بعودة الإخوانية. فالثورة بمعنى الرغبة في تغيير الأوضاع إلى الأفضل مطلب تلتف حوله الأغلبية الكاسحة من المصريين، مع تمنيهم بالقطع في تجنب الأعراض الجانبية لها من اضطراب اجتماعي وغموض.
فثورة 25 يناير انطلقت لأن شروطها كانت متوافرة كاملة، وما زاد سخط الناس على المجلس العسكري الأول ومن بعده على"الإخوان"، أنهما أهملا مطالب الثورة المستحقة، وغير القابلة للتأجيل، وراحا يعملان ما في وسعهما من أجل أن تبقى الأمور على حالها.
لكن ما يعوق هذا المسار الآن هو أن من جلسوا في مقاعد الحكم بعد يونيو 2013 ليسوا من الثوريين، بل هم مزيج من أتباع النظام القائم، والمنحازين إلى الخيار الأمني، والميالين إلى رفض التغيير. وهذا أمر خطير جداً، سواء على السلطة الراهنة، إن استمرت في عدم الاستجابة لنداءات العدالة الاجتماعية، وفي فعل ما يجرح كرامة المواطنين، ويخنق الحريات العامة.
3ـ خيار الإصلاح: يعني هذا الخيار عدم الاستجابة الفورية والسريعة لاستحقاقات الثورة، واتباع النهج الإصلاحي الذي يقوم على ترك الآليات والإجراءات التي يحددها الدستور من تداول سلطة، وتعددية سياسية، وتكافؤ فرص بين المتنافسين السياسيين، ونزاهة الانتخابات، ورقابة شعبية، وتقوية المؤسسات، وحضور المجتمع المدني، لتصحيح أخطاء الماضي تباعاً وتحقيق ما أراداه الثوار، ولا سيّما أن الفساد والاستبداد نجما عن "التأبد في الحكم" وضعف المجتمع في مواجهة السلطة.
لكن هذا المسار يبدو متعثراً الآن إلى حد بعيد، خاصة مع عدم احترام الدستور، وغياب أي إجراءات لمكافحة الفساد، وسن قوانين تضيق على الحريات العامة من تفكير وتعبير وتدبير، وعودة التسلطية إلى قرارات الحكم وإجراءاته.
في ضوء ما سبق، يبدو خيار الانتصار للثورة من قبيل "التفكير بالتمنى"، لاسيما أن كثيراً من تصرفات السلطة الحالية هي أقرب لإرادة وتصورات "القوى المضادة للثورة"، خاصة مع تواطئها وصمتها على تشويه ثورة يناير، ومطاردتها لرموزها وشبابها بأكثر من طريقة تتراوح بين السجن والاستبعاد من دوائر القرار مروراً بالاغتيال المعنوي، وقبل كل هذا عدم ترجمة أحلام شبابها في إقامة دولة مدنية حديثة إلى خطط وبرامج وقرارات وإجراءات.
كما أن خيار "الإصلاح" الحقيقي يبدو مستبعداً، وإن تطرقت السلطة إليه فإنها لن تغادر الدعاية الجوفاء، مثلما كان يفعل نظام مبارك، لاسيما في ظل الاستغراق في تغليب الأمن والتنمية على الديموقراطية، وكأن بينهما تناقض، والعودة إلى "التعددية المقيدة" و"الحزبية الشكلية" والعمل بكل طاقة من أجل عدم ميلاد أي بدائل للسلطة الحالية، وتمكين الزبائنية التي كانت تحكم البلاد أيام مبارك من رقبة القرار وركائز القوة في المجتمع والدولة.
لهذا يبقى الحفاظ على النظام هو الخيار الذي تسلكه السلطة، وتسوقه باعتباره هو الحفاظ على الدولة، وتفعل وستفعل كل شيء في سبيل تحقيق هذا الهدف، بما يزيد من الفجوة بينها وبين الشعب بمرور الوقت، وعندها قد تتعبثر الخيارات والمسارات من جديد، وتحتاج بالقطع إلى إعادة ترتيب على أسس مغايرة.