"الأميّة المنهجية" في الرسائل الجامعية
الأميّة المنهجية ليست قرينة الأميّة الأبجديّة في كل الأحوال، فهناك من الزرَّاع والصنَّاع والتجَّار البسطاء من رُزِقت عقولهم بتفكير منطقي يعينهم على حل مشكلاتهم الحياتية البسيطة والمُعقّدة. وهناك من بين الدارسين والمتعلّمين مَن يتخبطون في عشوائية التفكير ويعانون من تشوّش الذهن، وتستعصي عليهم أدنى المُشكلات التي تعترض طرقهم. ولهذا نجد فلاحاً ناجحاً في مهنته ومهمّته مع أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، بينما نجد باحثاً أو أستاذاً عاجزاً عن أداء ما هو منوط به على أي وجه صائب، لأنه يفتقد مكنة التفكير المنهجي التي تعينه على فهم الأمور فهماً سليماً.
أغلب الرسائل الجامعية تدور في الحدود الدنيا
مَن يُطالع الأطروحات العلمية من ماجستير ودكتواره في
حقل الإنسانيات في جامعات عربية عدّة سيكتشف للوهلة الأولى أن أغلبها يفتقد إلى
الدقّة المنهجيّة والأصالة العلمية والقُدرة على إضافة شيء لافت أو إبداع جديد،
بينما الجامعات ماضية في منح الدرجات وفق آلية بيروقراطية، نالها الفساد والعطب
الذي ضرب جَنَبَات مؤسّسات وهيئات ومسارات أخرى في مجتمعاتنا، لنجد عشرات الآلاف
ممن يحملون درجة مُدرّس أو أستاذ مُساعد أو أستاذ، لا يرقى ما لديهم من إمكانية
التفكير العلمي والضبط المنهجي والعمق المعرفي إلى ما يحملونه من درجات، ويعتقد
أغلبهم واهماً أنه يستحقّها، بل يتيه بها كثيراً على مَن هم دون ذلك في المجتمع
العام.
إن وظائف البحث العلمي تتدرّج صعوداً من "جمع
المتفرّق" إلى "إبداع الجديد" أو "اختراع المعدوم" و مروراً بـ "تكميل الناقص" و "تفصيل المُجمل" و"تهذيب
المُطوّل" و"ترتيب المُبعثَر" و"تعيين المُبهَم" أو
"تجلية الغامض" و"تبيين الخاطئ" و"نقد السائد"، لكن
أغلب الرسائل الجامعية تدور في الحدود الدنيا لتلك الوظائف وخاصة "جمع المُتفرّق"،
بل نجد كثيراً من الباحثين قد انحدر بهذه الوظيفة وصاروا لا شغل لهم ولا انشغال
سوى التقاط ما يخدم موضوعات أطروحتهم من
الكتب والرسائل الجامعية والدراسات المنشورة في دوريّات ومقالات الصحف، بما يمكّنهم
في نهاية الأمر من استيفاء الشكل أو المظهر العام الذي يعتقد به الرائي أو المُطالع
أنه أمام أعمال عليمة منهجية، تنطلق من أسئلة مطروحة أو افتراضات محدّدة، وتتبع
منهجاً أو اقتراباً علمياًوو في
الفحص والدرس، وتسير على خطة مُحكمة للإجابة على التساؤلات وإثبات الفروض أو دَحضِها.
لكن هذا الشكل يبقى بلا مضمون لأن ما سيطر على ذهنية الباحثين
هنا ليس الوصول إلى جديد، أو حتى نقد المُتداوَل والمُتَاح، إنما قصّ جُمَل أو
عبارات، وأحياناً صفحات كاملة لآخرين ثم إعادة لصقها في صفحات جديدة، فتبدو في
حقيقتها أقرب لنبات انغرس في وسط بيئي غير مُلائِم لنموّه واستوائه على سوقه، فأصبح
مصفرّاً ولا يُرجى منه ثَمَر. والطامّة الكبرى في هذا أن كثيراً من الكتب أو
الرسائل المنقول عنها والمنسوب إليها، تكون قد أعدّت بالطريقة نفسها، ومن ثم تبدو
العملية التعليمية أقرب إلى لُبُنات تتابع في كومات مبعثرة ورغم ضخامتها التي تملأ
العيون، فإنها ليست أبنية مجهّزة للسكن يمكن الاستفاد منها والاعتماد عليها، بل هي
عَثَرَات في طريقنا تمنعنا من التقدّم إلى الأمام.
والأخطر من كل هذا أن هناك جيلاً ممن يحملون لقب
"أستاذ" ويشرفون على الأطروحات الجامعية هم أنفسهم أبناء هذا المسار
المعوّج، وتنطبق عليهم دوماً الحكمة السابغة التي تقول: "فاقد الشيء لا يُعطيه"،
ومن ثم فإنه لا طائل من انتظار أن يخرج من تحت أيدي هؤلاء باحثون يرتقون بوظائف
البحث العلمي سواء في مجال الإنسانيات أو الطبيعيات، لاسيما أن بعضهم اعتاد إخضاع
البحث لميوله السياسية أو الأيديولوجية وتلك آفّة كبرى.
وهذه الحال يمكن أن
يُطلق عليها باطمئنان "الأميّة المنهجية"، وهي في نظري أرذل أنواع الأميّات
التي انشغلنا بها طويلاّ، مثل الأميّة الأبجدية والثقافية والسياسية والإلكترونية
.. الخ. فالعلم بمدخله وليس بموضوعه ومن ثم فإن امتلاك القدرة على التفكير السليم
هي الأساس، ليس لمن يعملون في السلك الجامعي أو مراكز البحوث فحسب بل لسائر مواطني
أية دولة. فمثل هذه الفضيلة تمكّنهم من الارتقاء بحيواتهم الخاصّة ومجتماعاتهم حين
يفهمون الأمور على وجهها السليم، ويمتلكون مِنعة حيال أية أساليب للتلاعب بعقولهم،
ويتفاعلون سريعاً وبإيجابية مع كل إشارات أو تصرّفات أو تدابير تقوم بها الإدارة،
ويكون من شأنها تحقيق المصلحة العامة. وعلى المِنوال ذاته يمتلكون ردّ فعل سريع
وإيجابي حيال أية تصرّفات تسير في الاتجاه المُعاكس، فيمنعون الضرر عن مجتمعاتهم
التي لا سبيل إلى ارتقائها سوى بالعلم.
والأميّة
المنهجية تلك لا علاقة لها بمستوى تحصيل المعلومات، والتي بالغ البعض في تقدير
أهميته إلى درجة أنه قد جعل منه الثقافة نفسها، وصار المثقّف هو الذي قطف من كل
بستان زهرة، أو الذي إن سألته عن معلومة ما في أي تخصّص أو مجال وجدت الإجابة عنده
أو طرفاً منها أو ما يشببها على الأقل. وفي هذا تمجيد للذاكرة مع أنها على أهميتها
أقل المَلَكَات العقلية البشرية مُقارنة بالقدرة على الفَهم والربط والإدراك
والابتكار. وفي هذا أيضاً سير عكس اتجاه الزمن، ففي أيام المكتبات
الإلكترونية ومحرّكات البحث على الشبكة العنكبوتية التي تأتي بالمعلومات من كل
مكان وبكل اللغات، يكون من العَبَث أن يجعل شخص همّه هو حفظ معلومات متناثرة،
ليستعرض بها أمام الناس وليس امتلاك قدرة على بناء الحجّة وصناعة مسار برهنة
متماسك وتكوين موقف من الذات والمجتمع والآخر والكون.
والأميّة المنهجية ليست قرينة الأميّة الأبجديّة في كل
الأحوال، فهناك من الزرَّاع والصنَّاع والتجَّار البسطاء من رُزِقت عقولهم بتفكير
منطقي يعينهم على حل مشكلاتهم الحياتية البسيطة والمُعقّدة. وهناك من بين الدارسين
والمتعلّمين مَن يتخبطون في عشوائية التفكير ويعانون من تشوّش الذهن، وتستعصي عليهم
أدنى المُشكلات التي تعترض طرقهم. ولهذا نجد فلاحاً ناجحاً في مهنته ومهمّته مع
أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، بينما نجد باحثاً أو أستاذاً عاجزاً عن أداء ما
هو منوط به على أي وجه صائب، لأنه يفتقد مكنة التفكير المنهجي التي تعينه على فهم
الأمور فهماً سليماً.
والأميّة
المنهجية لا تُمحى بتكثيف دراسة مناهج البحث واقتراباته، فهذا مجرّد عامل مُساعد،
لكنها تختفي حين يتعلّم الشخص كيف يستعمل أدوات التفكير العلمي في التعامل مع
مشكلاته البحثية والحياتية على حد سواء، منطلقاً من أن العلم يتّسم بالنسبية ويبدأ
بالشك وينفر من الإطلاقية والوثوقية ويلهث دوماً وراء التحقّق من المعلومات، وهو
أيضاً يتعامل مع المعرفة بوصفها ذات طابع تراكمي ويتّسم بالموضوعية التي تخفّف من
تأثير الذاتي أو تُحيده، وينزع إلى وضع كل شيء موضع المُساءلة. وتعلُّم هذا لا
يكون فقط بعرض شروط التفكير العلمي وحفظها إنما بالتدرّب عليها والتفاعل الخلاّق
بين أجيال الباحثين، والطموح الدائم إلى بلوغ آفاق جديدة بتجاوز السائد والمُتاح
وفضح المسكوت عنه أو كشفه.
والأميّة
المنهجية لا تنتهي بين عشيّة وضُحاها، ولا يجب أن تشغل القائمين على العملية
التعليمية حيال طلاب الدراسات العُليا فقط، بل إن الانتهاء منها هو عملية طويلة
وشاقّة وصارِمة، تبدأ منذ التحاق التلميذ بالمدرسة وتكبُر معه كلما أوغل راحلاً في
مدارج العلم ومراتبه، فإن وصل إلى المرحلة التي عليه أن يشتغل بالبحث العلمي يكون
قد تمكّن من أدواته، وبالتالي يُضيف باستمرار إلى ما هو قائم، ومن هنا تتحوّل
الأطروحات العلمية إلى لَبَنَات بعضها فوق بعض فيعلو البنيان أو خطوات تتلاحق في
اتجاه الهدف.
والأميّة
المنهجية لا يجب أن تُقابَل بكل هذه الاستهانة لحساب تعليم عابر يمدّ حياة العرب
كل سنة بملايين الخريجيين من الجامعات والمدارس الفنية من دون أن يضمن أن كل هؤلاء
قد امتلكوا بعد سيرهم كل هذه السنين في مساقات مدرسية وجامعية، منهجاً يعينهم على
تدبير أمورهم في العمل والبيت والشارع، إن اكتفوا بالدرجات التعليمية الأوليّة،
ويمدّهم بكل أسباب النجاعة والنباهة والنجابة إن واصلوا دراساتهم العليا في مختلف
التخصّصات والحقول العلمية.
إن
الحال المُزرية التي عليها أغلب الأطروحات العلمية في مجال الإنسانيات والتي تغصّ
بها رفوق المكتبات الجامعية لن تتبدّل، وينقضي سوؤها، إلا إذا أعيد النظر في
العملية التعليمية برمّتها فانتقلت من حرص مريض على تخريج حَفَظَة متعالمين بأي
شكل وأية صيغة، إلى إصرار قوي وعفي على صناعة جيل جديد من العُلماء الحقيقيين،
الذين تبدأ بهم رحلة مُضادّة للقضاء على الأميّة المنهجية في كلّياتنا الجامعية
ومدارسنا من دون ذلك سيستمر ما نحن فيه من خسران مُبين.