اقتصاد مُقاوِم .... حاجتنا إلى "التنمية الذاتية"
تقع "التنمية" الذاتية" في قلب المقاومة الاقتصادية، وتمثل العمود الفِقَري للاقتصاد المُقاوِم، لأنها تنبني أساساً على السعي الحثيث إلى الاكتفاء الذاتي أولاً ثم التفاعل الخلاّق مع الدوائر الاقتصادية العالمية ثانياً، وكلاهما شرطان رئيسان لمواجهة ما لدى الآخر المُنافِس، وكذلك العدو الآني أو المُحتَمَل الذي ندخل في صراع ضدّه، من قدرات مادية تسنده في التجبّر علينا أو تمدّه بما يمكنه من غزونا واحتلال أرضنا أو في حدٍّ أدنى تجعل بوسعه فرض الوصاية السياسية علينا.
معامل صناعية عربية في ظل الأزمات
ولا يعني هذا بالضرورة أن التنمية الذاتية هي مُجرّد تعبئة اقتصادية لخدمة
المجهود الحربي، فهذه وظيفة ظرفية وطارئة، بل هي وقاية تامّة للأمّة من الضعف
والهوان وذلّ الحاجة إلى المُساعدات وصون للغالبية العُظمى من الجماهير من العَوَز
والفاقة، بما يوطّن نفوسهم ويشدّ سواعدهم، فلا يكونوا قابلين للغزو أو الاستغزاء.
كما لا تعني التنمية الذاتية الانسلاخ الكامل عن النظام العالمي، فهذا مقصد
غير علمي وتوجّه يجافي الواقع، ولا يصمد أمام التطوّر الاقتصادي الدولي، إنما
تركّز على "الانسلاخ الانتقائي" الذي يجعل العلاقات الدولية في خدمة
"التنمية المستقلّة" أو على الأقل لا يجعلها عقبة كؤود أمامها. وهذا النوع
من التنمية قد يساهم في إنقاذ "التنموية" كحركة علمية طفت على السطح منذ الحرب العالمية الثانية وأفرزتها المدرسة
السلوكية في العلوم الاجتماعية لمواجهة المدّ الشيوعي من السلبيات التي التصقت
بها، والمآخذ التي سجلت ضدّها، والتي فضحتها مدرسة "التبعية"، وشكّكت في
مسلّماتها الفلسفية، وكشفت الجوانب الخفيّة لها.
فالتنمية الذاتية بما تعنيه من حق تقرير المصير الاقتصادي لا تدعو إلى
اتبّاع سياسة العُزلة التامة عن العالم، إنما هي ترمي إلى تحويل الاقتصاد التابع
أو الهامشي إلى اقتصاد مستقلّ عن الأبنية الرأسمالية المُتسلّطة والمُسيطرة على
السوق العالمية، من دون فقدان العلاقات الاقتصادية المُتبادَلة التي تحقّق مصالح
الدول النامية.
ومن يُمعِن النظر في تاريخ التنمية على مدار القرون الثلاثة الأخيرة سينتهي
إلى حقيقة جليّة مفادها أنه لا توجد حال تنمية واحدة تكلّلت بالنجاح من دون توافر
العناصر الأساسية للتنمية الذاتية، والتي تقوم على القواعد التالية:
أ ـ بلورة هويّة وطنية جامعة، تمنح الفرد والجماعة معاً إطاراً
مُتماسكاً يمكّنها من بناء رؤية محدّدة للعالم تساعد على حُسن التعامل معه،
ونظرة إلى الذات تقود إلى احترامها وتقديرها.
ب ـ تعزيز القدرة على الضبط والقيادة الذاتية في مختلف المجالات، السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ج ـ تنويع النشاط الاقتصادي وتوسيعه على مستوى القطاعات الاقتصادية كافة،
وتأسيسه هذا على نظام تعليمي يخدم برامج التنمية الشاملة.
د ـ وجود إرادة حرّة في تحديد شكل وحجم التعاون المُتبادَل مع الدول
الأخرى، بما يحقّق المصالح المُشتركة.
ومن هنا تتجسّد التنمية المستقلّة في نطاق عوالم ثلاثة هي عالم الرؤى
والمفاهيم والتصوّرات، وعالم المواقف والخيارات، وعالم الفعل والتصرّفات الذي
ينصرف إلى الخطط والبرامج والأدوات والمؤسسات، وهي في جوانبها النظرية وتطبيقاتها
العملية تعني تسعة أمور أساسية حدّدها بعض الاقتصاديين العرب وفي مقدّمهم الدكتور
إسماعيل صبري عبد الله في ما يلي:
1 ـ الاعتماد على النفس في مواجهة المعونات والقروض والاستثمارات
الأجنبية.
2 ـ وجود تنمية تتمحور حول الذات، وتتوجّه إلى الداخل، في مواجهة انشطار
الاقتصاد إلى شق تحديثي يرتبط عضوياً بالشركات متعدّدة الجنسيات وشق تقليدي يتأسّس
على أشكال الإنتاج القديمة المُتوارثة والبسيطة.
3 ـ توفير حد الكفاية أو الحاجات الضرورية لعموم المواطنين في مقابل إثراء
القلّة وتهميش الأغلبية وإفقارها.
4 ـ الاهتمام بالتنمية البيئية في مواجهة النهب المنظّم للموارد الطبيعية
والذي يؤدّي إلى نضوبها، وحرمان الأجيال القادمة من حقّها فيها.
5 ـ توسيع المشاركة الشعبية للحدّ من تجبّر الحكام وتسلّطهم، من منطلق أن
الديمقراطية السليمة هي أحد الأطر المهمّة التي تحفظ التنمية الذاتية وتوجّه
حصادها إلى مكانه الطبيعي.
6 ـ اللجوء إلى تقنية ملائمة لظروفنا، تلبّي احتياجاتنا، وتغني نفوسنا عن
الانبهار الرخيص بالتقنيات المتقدّمة التي لا نحوزها إلا بالاستيراد، ولا يُسمح
لنا بامتلاكها إلا في ظل التبعية. ثم العمل على تطوير ما لدينا من تقنيات في ظلّ
استراتيجية ترمي إلى بناء قاعدة علمية وتقنية وطنية، تساهم في ردم الهوّة بيننا
وبين الدول الصناعية الكبرى.
7 ـ التمسّك بالهويّة الحضارية والخصوصيات النافعة في مواجهة الذوبان في
الآخر، أو الانسحاق أمامه ومحاكاته وتمثّله.
8 ـ دفع الاقتصاد الوطني نحو التكامل الداخلي بما يمكّنه من تصفية الجيوب
المُرتبطة بالخارج، وفي مقدمها مناطق تركّز النشاط التابع للشركات متعدّدة
الجنسيات.
9 ـ الميل إلى الاعتماد الجماعي على النفس على المستوى الإقليمي وبين الدول
المتجاورة، بما يمكّنها من تشكيل كيانات اقتصادية كبيرة بوسعها النضال ضدّ
أساليب الاستعمار الجديد وسعي الدول الكبرى في السيطرة والاستغلال، وفي مكنتها
الوقوف في وجه التكامل الاقتصادي الذي يجري بين الدول الصناعية.
أما الجوانب التطبيقية أو الإجرائية للتنمية الذاتية فتبدأ بحصر شامل لجميع
الموارد المحلية المُتاحة من قوى عاملة ورأسمال ومواد خام ووسائل إنتاج ومعارف
تنتجها النخبة أو يجود بها الموروث الشعبي، ثم القيام بربط حركة التصنيع
بالموارد المحلية، وتطوير أساليب الإنتاج القائمة وتشجيع ابتكارات أخرى تلائم
الموارد المحلية من جهة، وتلبي احتياجات القاعدة العريضة من الشعب، ورفع إنتاجية
القطاع الزراعي، باعتبار الزراعة هي المكّون الأول للنشاط الاقتصادي والذي تضيق
فيه الفجوة بين الدول مقارنة بالصناعة والتكنولوجيا.
وفي حقيقة الأمر فإن الفرصة لم تُتح كاملة لاقتصاديات الدول العربية، على تفاوت قدراتها، كي تصل
إلى أقصى حدّ من "تعميق التصنيع"، ليصبح بإمكانها غرس جذور طويلة صلبة
لتنمية اقتصادية متكاملة الأركان. فالعرب إما أنهم قد توغّلوا قليلاً في مجال
الصناعة وارتضوا بحصاد هزيل يقتصر على صناعات خفيفة تقام داخل الحدود التي يرسمها
رأس المال الأجنبي، أو أنهم اكتفوا باستيراد الجزء الأكبر المّكمّل لصناعتهم من
الخارج، بعد أن مضى عهد تبنّوا فيه مشروعات صناعية كبرى لم يُكتب لها النجاح، مثل
ذلك الذي تأسست على إثره "الهيئة العربية للتصنيع"، وقت أن كان نظام
الرئيس جمال عبد الناصر يرفع شعار "من الإبرة إلى الصاروخ". وفي الغالب
فإن العرب تحوّلوا إلى سوق رائجة للبضائع الأجنبية، على مختلف أشكالها وأثمانها
ومجالات استخدامها.
شركة صناعة كيماوية
ورغم وجود بُنية تحتية لا بأس بها، ومرافق أكثر حداثة،
ومستويات معيشة مرتفعة في الدول النفطية الخليجية، فإن البُنية الاقتصادية في
عمومها تعتمد على إنتاج القطاع الأولَى، الذي يوفّر فوائض مالية ضخمة، لكنه عاجز
عن إنهاض الاقتصاد وتحويله من مرحلة "القابل" إلى مرحلة
"الفاعل"، وأضعف من أي ينهي حال التنمية اللامتكافئة بين العرب بوصفهم
جزءاً من العالم الثالث وبين الدول المتقدمة صناعياً. ومن ثم فهناك عدة أمور تجعل
حاجتنا في العالم العربي إلى التنمية الذاتية مُلحّة، أجملها العديد من علماء
الاقتصاد العرب من بينهم إبراهيم سعد الدين ويوسف الصائغ ويمكن ذكرها على النحو
التالي:
1 ـ ارتهان العرب، قُطرياً وقومياً، وفي المجالات الفكرية والثقافية
والاجتماعية والسياسية والأمنية والتقنية، للتبعية، التي تمتّص قسطاً كبيراً من
جهدهم الاقتصادي وتعطّل قدراتهم وتشوّه مسارهم الإنمائي.
2 ـ وجود حال من التواطؤ الضمني أو الصريح مع القوى الخارجية التي تعمل على
إبقاء العرب أمّة مُستهلكة، واستمرار ما يحوزونه من ثروات وعلى رأسها النفط كمجرّد
مواد خام للآلة الصناعية للدول الكبرى.
3 ـ القيمة الإيجابية التي تكمن في سعي المجتمع العربي إلى تحقيق تنمية
مستقلّة، والتي تنعكس على مختلف المسارات والخيارات الأخرى.
4 ـ إخفاق برامج "الخصخصة" و"التكيّف الهيكلي" في
النهوض بالاقتصاديات العربية، وإخراجها من كبوتها، وفشلها في خدمة التوجّه نحو
العمل الاقتصادي العربي المُشترك، الذي لا يزال حبراً على ورق.
5 ـ لم تتخلّ الدول الرأسمالية الكبرى عن تطبيق بعض المبادئ العامة للتنمية
الذاتية، وبعض الإجراءات الخاصة بها من قبيل الاكتفاء الذاتي، والتفاعل الاقتصادي
الخلاّق مع العالم، وتشجيع الصناعات المحلية، كل ما في الأمر أن هذه السياسات أخذت
مسمّيات أخرى، ولبست مصطلحات مُغايرة. وليس هذا بأمر جديد أو استثنائي على
الرأسمالية التي نجحت في تجديد نفسها مستفيدة من عطاء النظريات الاشتراكية، وذلك
بالاهتمام بسياسات التأمين وإعانات البطالة وتوفير الدولة للخدمات الرئيسية ..
الخ.
والطريق الذي تأخذه التنمية الذاتية العربية يتعبّد على حزمة من المسارات
الصغيرة المتجاورة، بل المتلاصقة، أولها التخلّص من مقولات ومضامين النموذج
الاقتصادي/ السوسيولوجي الليبرالي الكلاسيكي الذي يجعل من "التغريب"
طريقاً واحدة للتنمية، ويعبّد درباً واحداً للتحديث الاقتصادي والاجتماعي هو ذلك
الذي سلكته الدول الغربية. وثانيها هو التمسّك بالأصالة في ظل الاستجابة لمقتضيات
المعاصرة، بحيث نستلهم من التراث ما فيه من قيَم ومبادئ أساسية عامة، ونأخذ من
الحداثة ما أهدته لنا من مؤسسات وإجراءات تنظيمية وقوانين للعمل وأدوات وأساليب
للإنتاج.
أما ثالثها فيتمثّل في ضرورة سبر أغوار "التبعية" وإدراك منشأها
وجذورها للوقوف المتوازن والسليم على معناها ومبناها وطبيعتها وحقيقتها وتمثلها في
اللحظة الراهنة وامتدادتها وتغوّلها في مختلف المجالات. وهذا الفهم والإدراك مقدمة
ضرورية لبناء استراتيجيات ترمي إلى وقوف زحف التبعية وإجبارها على الانحسار.
والرابع هو تطوير مفاهيم ملائمة للوضع الاجتماعي العربي من دون التقيّد
بالمفاهيم التقليدية محدودة الأفق التي يتأسّس عليها الفكر الاقتصادي المُتداوّل
مثل تعظيم الإنتاج وتضييق فجوة الدخل بين البلدان الصناعية الكبرى ونظيرتها
النامية، ورفع مستوى الدخل الفردي الحقيقي، وزيادة معدّل النمو الاقتصادي. فهذه
المفاهيم إن كانت تنطوي على أهداف طيّبة فإن من الواجب إدخال تعديلات عليها،
وإخضاعها لاختبار تطرح فيه أسئلة أربعة هي: لماذا ننمّي؟ لمن ننمّي؟ ماذا ننمّي؟
كيف ننمّي؟ بحيث يصبح الهدف الأساسي للتنمية هو تحقيق مصلحة الجماهير العريضة
وليست القلّة المُحتكرة أو التابعة لاقتصاديات ما وراء البحار.
أما الخامس فينبني على ضرورة الاعتماد على الذات إلى أقصى حد ممكن، بدءاً
بتصوّرنا عن التنمية من حيث دلالاتها ومراميها وطرق تحقيقها وانتهاء بتوظيف
الطاقات والقدرات العربية الذاتية بشرية وطبيعية لخدمة التنمية. والسادس هو إيجاد
إطار ملائم يسعى إلى التنمية الذاتية ويحرس منجزاتها ويدفعها إلى الأمام يتأسّس
على استقلال القرار السياسي العربي، وتمكين الجماهير من المشاركة السياسية في ظلّ
نظام ديمقراطي سليم وحقيقي.
وإذا انطلقنا إلى الجوانب التطبيقية للتنمية الذاتية العربية فنجدها تقوم
على عدة إجراءات مثل وجود تنمية بشرية تتأسّس على فلسفة تربوية تُتيح للإنسان
العربي أن يُطلق قدراته الكامنة إلى آخر مدى لها، ويدفع كل ركائز قوته الناعمة
بأقصى سرعة ممكنة. وتمتين البُنى التحتية على المستوى القُطري أو عبر الأقطار
العربية لاسيما في قطاع النقل والمواصلات. والعمل الحثيث والجاد على امتلاك تقنيات
ملائمة بما يؤهّل العرب تدريجاً للاستغناء عن جزء من التكنولوجيا الغربية، وينزع
عنهم الوهم الذي يُراوِد عقول الكثيرين من أن "استيراد التكنولوجيا"
يعني "نقل التكنولوجيا. وتطوير الريف العربي بتعزيز بنيته الأساسية بما
يمكّنه من العودة إلى سابق عطائه، والمساهمة الجادّة والملموسة في تحقيق الاكتفاء
الذاتي من الغذاء. وتطوير الصناعات الهندسية الأساسية والصناعات المستقبلية بدءاً
من بناء قاعدة بحثية لإبداع الأفكار التي يحوّلها رجال الصناعة إلى منتجات من
السلع والخدمات. واعتماد سياسة رشيدة في إدارة الموارد الطبيعية بما يمنع هدرها،
ولا يصادر على حق الأجيال المقبلة فيها، وحُسن استخدام العائدات المادية التي
تُدرّها. وترشيد أوجه الإنفاق والاستهلاك وزيادة حيّز الادّخار وتقليل حجم
الاستيراد من الخارج، لاسيما للسلع الاستهلاكية والترفيهية والمظهرية، بما يُسهم
في تعزيز الوفورات المالية التي تحتاجها إقامة المشروعات وبناء المصانع.