بعد عام، ما تقدّم وما تأخّر

الدخول الروسي لإرساء توازن دولي ــ إقليمي يمكن أن يؤمن في المدييْن المنظور والأبعد حلاً سياسياً متوازناً باتت معالمه الإقليمية والداخلية من المسلمات على الرغم من مآسي الحريق التي تفتّح الولع بالنار.

الدخول الروسي إلى بركان الأزمة رسّخ تدويلها فوق شبكة الصراعات الإقليمية في سوريا
الانخراط الروسي في الأزمة السورية، لم يصل بسوريا إلى برّ الأمان، ولم ينجح بوقف الحرب والدمار أو بالقضاء على الإرهاب كما تعهّدت القيادة الروسية مع طلائع مقاتلاتها الحربية. لكن الدخول الروسي منع في لحظته الأولى احتمال سقوط الدولة والمؤسسات السورية في أيدي جماعات مسلّحة متذابحة فيما بينها على النفوذ والمكانة وفتات الثروة. فسقوط الدولة وانهيار المؤسسات يفتح الطريق أمام أشكال لا تُعد ولا تُحصى من الاحترابات المستدامة البينية والأفقية التي لا تنتهي بغير الفناء، كما تشير تداعيات انهيار الدولة في ليبيا إلى حالات كثيرة في تاريخ الحروب.


الدخول الروسي إلى بركان الأزمة رسّخ تدويلها فوق شبكة الصراعات الإقليمية في سوريا. بيد أن هذا التدويل أفضى في بداية المطاف ونهايته إلى عامل توازن مقابل جموح دولي ــ إقليمي بدأه تحالف واشنطن حرباً بالوكالة في دعم الجماعات المسلّحة، وكاد أن يجرّ واشنطن والحلف الأطلسي إلى عدوان مباشر بدعوى "أسلحة الدمار الشامل" عام 2013. فالدخول الروسي لإرساء توازن دولي ــ إقليمي يمكن أن يؤمن في المدييْن المنظور والأبعد حلاً سياسياً متوازناً باتت معالمه الإقليمية والداخلية من المسلمات على الرغم من مآسي الحريق التي تفتّح الولع بالنار.


لم تعد مراهنة تحالف واشنطن على انتقال سوريا من موقعها إلى مواقعه الجيو ــ سياسية ممكنة. فهذه المراهنة المنافية لطبيعة الأرض ورجالها في سوريا وفي امتداداتها الإقليمية، هي أشبه بالمراهنة على حروب الثلاثين سنة في أوروبا. وقد أخلت مكانها بفضل إرساء التوازن الدولي ــ الإقليمي، إلى مراهنة أخرى أكثر واقعية وقابلية لاختصار أمد حرب مفتوحة إلى ما لا نهاية. فالانعطافة التركية ومحاولات التقاطع المتتالية مع إيران، تقطع الشك باليقين أن بعض التسويات الإقليمية ممكنة في الحوار، لتوطين الخلافات والانقسامات الحادة وصولاً إلى حلول أكثر نضجاً وديمومة في تبديد المخاوف والمخاطر.
وفي المقابل تقطع المراهنة السعودية الشك باليقين أن الذهاب إلى حرب مفتوحة لا يتوقف أمام الحائط المسدود، هي حرب من أجل الحرب غير قابلة لأن تستثمرها السعودية بغير انفجار الإرهاب الذي يعود كسمك "السلمون" إلى كنف ولادته.


ما أدّى إليه الدخول الروسي في إرساء التوازنات غير الافتراضية، تتضح معالمه في الحل السياسي الداخلي القابل للحياة. فما كان متداولاً بشأن أحلام تسليم السلطة واستلامها في جنيف، سرعان ما تبيّن على ضوء موازين القوى ضعف احتماله وقلّة جدّيته. والتوافق الإجمالي على تفاهمات فيينا وميونيخ يدلّ على أن طموح تحالف واشنطن في استلام السلطة وإسقاط النظام أصبح متقادماً. وتتقدم عليه مساعي تشكيل حكومة وحدة وطنية أولويتها مواجهة الإرهاب. وعلى هذا الجذع أوضح وزير الخارجية السوري وليد المعلم في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تفاصيل ما تراه سوريا من خطوات إجرائية في هذا السبيل. وربما تحمل التطورات اللاحقة بعض التعديل في هذا التفصيل أو ذاك، لكن جذر الحل السياسي المتوافق عليه بشكل أو آخر لا يتعدى كثيراً هذا الإطار العام.


الاتفاق الروسي ــ الأميركي الذي تراجعت عنه واشنطن في اللحظات الأخيرة، يستند إلى أن هذا الجذر هو الحل الأفضل لوقف الحرب. ولعل التراجع الأميركي من دون احتمال أفق آخر، يزيد التأكيد تأكيداً. فما يبدو تصعيداً سعودياً أميركياً في التلويح بأسلحة جديدة وصواريخ مضادة للطائرات، قد لا يتجاوز التعويل على تغيير بعض المعادلات أملاً بتحسين شروط التفاوض في إطار الحل الممكن وتحت سقف التوازن الذي أحدثه الدخول الروسي. وقد يكون الرماد الذي يغطي الأنقاض في سوريا حافزاً للبعض على المزيد من الحرب والدمار، لكنه أقصى ما يصيب سوريا والمنطقة ومن بعده نهوض من تحت الأنقاض.