حرب تشرين: دروسها وبداهاتها المستعادة
المفارقة أنه في كل عام تصدر في إسرائيل كتب وأبحاث جديدة عن الحرب ودروسها واستخلاصاتها، وتقرأ مراجعات وتصويبات مستمرة لدى الإسرائيليين، ولا تجد مثل ذلك لدى العرب، بل ثمة صعوبة في العثور على كتب ودراسات عربية مُعتبرة عن الحرب، وكان يفترض العكس، أي أن يميل الإسرائيليون لـ "السكوت" عنها أو أن يكتبوا في تبريرها، فيما يميل العرب لـ"المبالغة" في الحديث عنها وفي إبراز دروسها.
لـ "السكوت" عنها أو أن يكتبوا في تبريرها، فيما يميل العرب لـ "المبالغة" في الحديث عنها وفي إبراز دروسها. والمفارقة أيضاً هي أنك لا تجد لدى العرب سردية كاملة، رسمية أو غير رسمية للحرب، وهذا من الأمور التي يجب التدقيق فيها. غير أن نقطة القوة في الحرب كانت هي نفسها نقطة التهديد أو الخطر، إذ ان تجربة الحرب نبهت إسرائيل وحلفائها إلى ضرورة "احتواء" أي إمكانية لقيام أي حرب أخرى ضدها، ويمكن وضع الكثير من الصراعات والنزاعات الداخلية والبينية في هذا السياق، أي خلق حروب بديلة تشغل المنطقة عما يجب أن تنشغل به حقاً، وهو -كما ذكرنا- البداهة الأساسية للصراع فيها بين العرب وإسرائيل. مع الانزياح –قُل الاختلال- في المدارك والسياسات، وإحلال مقولات "البوابة الشرقية"، والحروب العربية-العربية، وصولاً إلى "حلف الاعتدال" مقابل "حلف المقاومة"، و"مذهبة" السياسات الإقليمية و"تطييفها" أو"سعودتها"، وبروز تحالفات بين السعودية وإسرائيل ضد إيران وحلف المقاومة الخ بدت المنطقة كما لو أن حرب تشرين لم تقع! وفي الوقت الذي نقرأ فيه اليوم تجربة حرب تشرين، نقرأ بالمقابل أن عملاء المعارضة المسلحة في سورية سرقوا مقاطع إعدام الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين في دمشق وأهدوه لإسرائيل، وذهبوا للاستشفاء في مشافيها، وتلقوا أسلحة ودعماً متعدد الأشكال منها، وقالوا أن حربهم ليست ولن تكون معها. عندما نتحدث عن حرب تشرين وإنجازاتها الكبيرة، لا يكفي أن نتذكر، ولا أن نُراجع الأرشيف، ولا أن نُقارِبَ اللحظة الراهنة بمثال أو منوال سابق، وإنما يجب الانتقال من ايديولوجيا الحرب إلى معرفة الحرب، أو من خطاب الحرب إلى ابستمولوجيا الحرب، إذا صح التعبير، وذلك من خلال ديناميتين متوازيتين، الأولى هي التدقيق في المنطق العميق للحرب، وتقصي "المسافة" أو "الفجوة" بين نقطة الانطلاق ونقطة التوقف فيها، ولماذا لم تنته إلى ما قامت من أجله؟ والثاني هو المقارنة بين لحظتين تاريخيتين هما لحظة الحرب عام 1973-1974، واللحظة الراهنة اليوم، والسؤال لماذا يتم "التنكر" للحرب و"الإخفاق" في استخلاص الدروس والعبر منها، ولماذا لم تعُد إسرائيل هي الخصم أو العدو من منظور طيف متزايدة من فواعل السياسة في المنطقة، بل أصبحت معاداة إسرائيل تهمة؟! معنى حرب تشرين "لا يفسره ما بعده"، وإلا فإن ذلك "يُثَبِّتُ" ما حاولت إسرائيل وحلفاؤها القيام به، وهو أن الحرب كانت قراراً خاطئاً أو مغامرة، هذا ما يحاوله أيضاً حلفاؤها الجدد المتورطون في الأزمة السورية. وقد قال السيد حسن نصر الله في ذكرى حرب تموز، أن السعودية "هي التي قتلتنا في حرب تموز"، وشدد على أنه "لا ينبغي أن نغفل أن عدونا هو الإسرائيلي"، رغم أن "الخطر الوجودي في المنطقة هو الخطر الوهابي". يُفترض أن تُركِّز قراءة حرب تشرين على مدارك اسرائيل وتقديراتها، ذلك أن الخوف الذي أثارته الحرب لديها كان عميقاً وخطيراً، ولا يمكنها أن تغفل عنه. وعلينا النظر للحرب وفق ما وعدت به، أي وفق دلالاتها البدئية، لا وفق ما انتهت إليه، أو ما أعقبها، ذلك أن إكراهات السياق (الإقليمي والدولي) كانت قوية وقاهرة. وهذا يمكن أن ينسحب -في جانب منه- على تجارب الصراع العسكري والسياسي الأخرى مع إسرائيل، وخاصة تجارب المقاومة الوطنية واليسارية ثم مقاومة حزب الله في لبنان وصولاً إلى تحرير الجنوب عام 2000 ومن ثم حرب تموز 2006، وانتهاء بتجاذبات الحرب في سورية وتورط إسرائيل فيها. كان الأمل أن يكون قرار حرب تشرين ثمرة لتوافقات ووعي بأهمية وأولوية ما قامت من أجله، وأن تكون الحرب بذرة ولحظة تأسيس لما بعدها، ولكن ما حدث بعد ذلك كان مختلفاً، وذلك لا يقطع مع بداهة أن الصراع الرئيس في المنطقة هو مع إسرائيل، بل يؤكدها ويعززها، من دون التقليل من تأثير مصادر التهديد الأخرى. وقد كشفت الأزمة في سورية عما كان مخبوءاً أو مستتراً من رهانات إسرائيلية خلال عدة عقود، وكشفت بالقدر نفسه عن أن انخراط فواعل المقاومة في الدفاع عن سورية هو استعادة نشطة لـ "البداهات العميقة" لحرب تشرين نفسها.