مؤتمر باريس بين القبول الفلسطيني والرّفض الإسرائيلي
من المتوقّع أن ينعقد مؤتمر باريس للسلام الإسرائيلي الفلسطيني في 15 من كانون الثاني/ يناير في العاصمة الفرنسية، وكان آخر ما تسرّب إلينا عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن المؤتمر سيتّخذ قرارات "هامة وصعبة" في ثلاث قضايا جوهرية – القدس واللاجئين والحدود، وإنه سيحدّد آلية جديدة للمفاوضات برقابة دولية أوسع من الرباعية، وسقفاً زمنياً لإنهائها على ألا تتعدّى ال 18 شهراً، تنتهي باتفاق سلام نهائي بين الطرفين. ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيقولون إن المؤتمر سيحدّد معايير لضمان "أمن إسرائيل" ومعايير أخرى لتقاسم المياه أيضاً، وإن هذه المعايير سوف تشكّل أدوات مساعدة للتفاوض بين الطرفين لتسهيل التوصل إلى اتفاق ضمن الفترة المحدّدة. ويذهب الباحث شلومو بروم، مدير ملف العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية في مركز أبحاث الأمن القومي، أكثر من ذلك، فيرى أن قرارات المؤتمر قد تُحَوَّل إلى مجلس الأمن لاعتمادها في قرار بديل لقراريه السابقين 242 و 338 وربما لقرارات أخرى أيضاً.
ولكن السبب الأهم في تقديري هو إعادة القضية إلى الطاولة الدولية، بعد أن نجحت إسرائيل بمساعدة أميركا في سحبها من هناك إلى طاولة ثنائية تستقوي بها إسرائيل على السلطة الفلسطينية، وتستغل التفاوض لزرع المزيد من المستوطنات وتوسيع القائم منها أي لفرض أمر واقع يمنع في النهاية من إمكانية إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. إن العودة إلى الطاولة الدولية تعني أن مرجعية المفاوضات هي قرارات مجلس الأمن والقوانين الدولية ذات الصلة، في حين كانت إسرائيل لغاية الآن تفاوض "من دون شروط مسبقة"، وهذا يعني وفق مفهومها بعيداً عن القانون الدولي، وعلى أساس أن الحق للأقوى، وبالتالي على الفلسطينيين أن يقبلوا ما تعرضه عليهم إسرائيل أو ما تحرمهم منه، ومن دون ذلك لا يوجد اتفاق. في ظل مفاوضات لا مرجعية قانونية دولية لها يفقد الطرف الفلسطيني الأساس القانوني لمطالبه، كما قوته الدولية المتضامنة معنوياً وسياسياً. عندها سيفاوض في حلقة مُفرغة تخضع لموازين القوى العسكرية والاقتصادية بين الجلاد والضحية، وهو تفاوض لن ينتهي إلى الأبد، وهذا ما يريده نتانياهو وغالبية الشعب في إسرائيل.
يمكننا أن نتفهّم المصلحة الفلسطينية في دعم انعقاد المؤتمر، إذا كان سيُحدّد آليات جديدة وسقفاً زمنياً للتفاوض، أما إذا كان المؤتمر سيُحدّد أيضاً مضموناً جديداً لقرارات مجلس الأمن 242 و 338 بحيث يتضمن الحل تبادلاً للأراضي، أي الإبقاء على الكتل الاستيطانية الكبرى، وتقاسم القدس من خلال تقاسم السيادة على الأحياء من دون العودة إلى حدود الرابع من حزيران، وحصر حقوق اللاجئين بالتعويض بدلاً من العودة والتعويض، فما هي مصلحة السلطة الفلسطينية في تأييد المؤتمر؟ خاصة بعد أن حصلت على قرار أجمع عليه العالم بأن المستوطنات الإسرائيلية بما في ذلك في القدس الشرقية ليست شرعية. قد يقول قائل، إذا فشلت المبادرة وكانت إسرائيل مُسبباً لفشلها، ستعترف فرنسا بدولة فلسطين في حدود الرابع من حزيران وقد تتبعها أوروبا كلها. نعم هذا مكسب ولكن هل هو استثنائي يستحق التنازلات التي تقدّمها م. ت. ف على طاولة مجلس الأمن من دون أن يكون القرار مُلزماً لإسرائيل؟ وهل يجوز لنا أن نؤيّد كل مبادرة ترفضها إسرائيل حتى لو تضمّنت تنازلات عن الحق الفلسطيني المشروع؟ ناهيك عن الانتقاص من الحقوق الطبيعية التي تضمّنتها قرارات مجلس الأمن، بدءاً من قرار التقسيم حتى قرار 2334. اعتاد الفلسطينيون أن يعطوا للعالم الفُرَص، لهذا الرئيس أو ذاك الوزير، أو يقبلون بوعود شفاهية من هنا وهناك، وعلى الغالب تكون هذه الوعود مشروطة بتنازلات فلسطينية، ويتّضح بعد فترة أنها وعود فارغة، وكعادة السياسيين لا تخلو جِرابُهم من الأعذار والتبريرات، لماذا لم ينفّذوا وعودهم، وهذا ما يجب أن يتوقّف! ولكنه لن يتوقّف من دون قرار فلسطيني حازم وشفّاف وغير قابل للاستئناف.. وعليه لا بدّ من أن تحدّد م. ت.ف في اجتماع المجلس الوطني المُزمع عقده بالتزامن مع انعقاد مؤتمر باريس، ماذا تريد. لا يجوز أن تنتظر مبادرات من هنا وهناك وتنساق مع كل مبادرة تقدّم فيها تنازلات ظناً منها أنها تناور، باعتبار أن حكومة إسرائيل لن تقبل بها. علينا أن نحدّد بشكلٍ واضح ٍ أن مطلب الشعب الفلسطيني هو تنفيذ قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، مع التأكيد أنها قرارات ظالمة، وهي تنتقص من الحقوق الطبيعية للشعب الفلسطيني، وأن هذا هو الحد الأدنى الذي يقبل به الفلسطينيون. كل ما عدا ذلك يدخل في مسلسل الابتزاز والتنازلات المجانية.