التغيير اليوم في مصر ليس في ماهية الرئيس ولا في أسلوب كلامه وخطاباته بل في نوعيّة الأجوبة التي يحملها
كنت في القاهرة منذ أيام خلت، وكنت في بردها الصحراوي وفي نكهتها الخاصة التي لا تهجرني أنّى بعدتُ
عنها وطالت غيبتي. القاهرة روح وليست مكاناً. نزلت من الطائرة وقلت لها: أنت – أخيراً
– سيّدة المدن، وتواً بدأت أسمع شكواها، الشكوى العالية، الغاضبة غير الذليلة.
من بين كل الأماكن في ميدان التحرير وسط البلد، أذهب أولاً إلى حسني في " دار
شرقيات " ليس لأنني آنسُ إليه أكثر من الآخرين، بل لأنه الوحيد – أحسب – الذي
يستيقظ باكراً مثلي، ما يسمح لنا باحتساء قهوتنا الصباحية معاً، ثم الخوض في
أحاديث لا تنتهي، تُقاربُ الأحوال قديمها وجديدها.
لم تختلط عليّ المشاهد في ميدان التحرير، فمكتبة مدبولي
مازالت، كذلك باتيسري " غروبي " و " دار الشروق " و "
كافيه ريش " وحانة أستوريل" و "زهرة البستان"، و "النادي اليوناني"،
والناس كما لو لم أغب، لم أفارق. وسط الضحكات المخبوءة على الوجوه، سأكتشف أن حسّ
السخرية مازال، السخرية من كل الأوضاع، السخرية التي تغفر كل شيء.
للحارات في القاهرة طابع الأمكنة المفتوحة، والأشياء
كلها والأماكن مشحونة بالرموز. السهر في مطارح القاهرة المعروفة ليس سهراً، إنه
أداة لصّد إرهاق السعي اليومي من أجل القوت، التخلّص من التعب. السهر في القاهرة
توّقف قسري ليلي، وحيّز لابدّ منه ليشّم فيها البني آدم رائحة إنسانيته.
الفندق الذي حللت به، كان قطعاً على النيل وإلإ ما حللت.
أن يهجم النيل على غرفتي لايتعدى الأمر
سوى هذه الغرفة التي اخترت، أما النيل فلن يزيد الأمر عن تحرّك هادىء للمياه، يقوم
به أمام عينيّ، فيحضر جذر تعلّقي الغرائبي هذا. أعلم أن الخيال يلعب لعبته،
الإغواء وسوى ذلك، إذ لا بدّ من أن تقدّم لي هذه الغرفة على النيل معلومات كافية،
إضافية، عن نقاط ضعفي حيال هذه المدينة. أنظر من شرفة بعرض النهر كله، شاحباً في
النهار، متلألئاً في الليل.. وأحبهُ.
سهرتُ بالطبع مع أصحابي، إذ من غير الممكن أن تلتقي
أحدهم في النهار والأمر على علاقة بسعيهم اليومي وبنومهم حتى ساعة متأخرة من
النهار.
في "
استوريل " كان الشوق والطيبة والنكات اللاذعة، وكان الإرباك من أمر ما واضحاً،
وكان الهمّ الوجودي والمعيشي والسياسي.. إلى هموم مصرية بحتة وخاصة. تبادلنا
إصداراتنا الجديدة وغادرنا.
عند صديقي الطيّب، في بيته، في بيته ومع أسرته اللطيفة،
وبمناسبة عيد ميلاد زوجة أحد أصدقائنا، جعلنا عنواناً للسهرة : " إعادة
الاعتبار إلى الإستعمار " في تأكيد ساخر على مرارة الأيام الحالية.
السائق الذي أقلّني إلى فندقي بادرني حين أوصلني وسألتهُ
: " عاوز كام ؟ " " أنا اللي عاوز كام ؟ دا انتي اللي عاوزه كام
عشان ركبتي معايا ؟ ضحكنا معاً من الروح الحلوة، ومما تستبطنهُ النبرة الموجوعة
التي تجاهد ضدّ التعب، ضدّ الفقر، ضدّ الموت غماً، ومع النكتة السمراء دائماً التي
تتغلّب على كل المنغّصات.
في بيت صديقتي أيضاً، في المهندسين، استعدنا معاً ملاطفات
وقت سبق، وعرفنا رغم البعد إن حديثنا مع ذلك، حديثنا القديم لم ينقطع.
تعمدّت زيارة " الحسين " لأقيس مدى حنيني
المقموع. كان الحنين على حاله. المصريون يؤثرون أهل البيت و" الحسين "
خصوصاً، وكان المدى خصباً لتظهير هذا الوَلَه.
وحدي في أغلب الأوقات لأني أستيقظ مبكرة، أقوم بجولات طويلة
مشياً على الأقدام، أسير وأتقاطع مع السائحين الأجانب الذين يعشقون مصر، أبحث في
عيونهم طوال الوقت عن ملمح دهشة مما يشاهدون، ويعجبني التفكير في أنهم يظنّونني
مصرية، وأنهم يفكّرون في أنني أعيش في هذا المكان، وأظلّ أسير على " الكوبري
" حتى أنتبه إلى أن الصوت الوحيد من حولي _ بما أن الوقت لمّا يزل باكراً –
هو صدى خطواتي صعوداً باتجاه فندق سميراميس، ونزولاً باتجاه " دار الأوبرا
المصرية ".
" لا تخرج الجماهير المصرية إلى التظاهر بسبب الفقر
" – جملة قالها لي أحد الأصدقاء المصريين وأردف : تخرج فحسب إذا لحقتها إهانة
ما. " يجب أن تراهني صديقتي – أكمل الصديق المصري – مصر لن تسكت طويلاً بعد.
في مصر، التغيير اليوم ليس في ماهية الرئيس ولا في أسلوب
كلامه وخطاباته، بل في نوعيّة الأجوبة التي يحملها. التغيير الحقيقي – على ما قال
لي – يستوجب استعادة السيادة الوطنية والاقتصادية، لتتمكّن الدولة المصرية من
القطع مع أوّليات السوق الدولية، فتعيد إطلاق الماكينة الإنتاجية الوطنية وتوّسع
مداها بحيث تصبح قادرة على استيعاب الطلب الهائل إلى العمل، وتندرج في مشروع عربي
واسع للتنمية العربية والأقليمية.
إنقاذ مصر لن يكون في العودة إلى قواعد اللعبة القديمة،
بل بتموضع سياسي جديد يقطع مع من عمل ويعمل على تقطيع أوصال الأمة ونهبها وتجويفها
ومنعها من بدء دولتها الحديثة الصاعدة.
كان صديقي يتكلّم، أنا كنت أنظر إلى النيل أُشهدهُ على
مراهناتنا الحّارة، والصادقة.