جاءت المسودّة المُقترحة للدستور السوري من قِبَل منصّة صديقة
في استدراك أول، فإن الحديث هنا عن الدساتير
وتعديلها ينطلق من الظروف الخاصه بالشرق، حيث لم ترتبط معركة الدساتير وتعديلها
وتجديدها باستحقاقات وطنية لدولة العقد
الاجتماعي المدني، الناجمة عن تحوّلات اجتماعية تاريخية بفعل الثورة القومية
البرجوازية، أو التحرّر الوطني وبرنامجه وقواه الطبقية والسياسية.
فما من محطة من محطات الصراع على الدساتير كانت
استجابة لذلك، وكانت هذه المعركة في كل مرة شديدة الارتباط بضرب النواظم المركزية
الخارجية للدولة الشرقية، وعلى رأسها الجيش.
ولذلك ، يلاحظ أنه إذا كان حلّ الجيوش المحلية،
مفتاح الغُزاة المستعمرين لتحطيم الدول والسيطرة عليها (حلّ الجيش المصري بعد
معركة التل الكبير مع الانكليز، وحلّ الجيش السوري بعد معركة ميسلون مع الفرنسيين،
وحلّ الجيش العراقي بعد العدوان الأميركي، وكذلك استنزاف الجيوش عبر العصابات
التكفيرية كما يحدث اليوم في سوريا والعراق ومصر واليمن) ، فإن تغيير الدساتير
واستبدالها بدساتير من صنع الغزاة أوتحت تأثير العدوان، هو الوجه الآخر لحلّ
الجيوش.
وتعود التدخّلات المذكورة عبر الدساتير، إلى
نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، عندما سعت المتروبولات الأوروبية،
إلى وضع يدها على أكبر بلدين في الشرق الأوسط آنذاك، وهما إيران وتركيا، وذلك من
خلال ما بات يُعرف في الأدبيات السياسية بالثورات الدستورية، السلف الحقيقي
للثورات البرتقالية والربيع العربي.
فلم تكن نوايا المتروبولات الرأسمالية وأهدافها
من دعم الثورات الدستورية، استبدال الأنظمة الإقطاعية البالية البائدة بأنظمة
ديموقراطية مستقلّة، بل توفير المناخات والشروط الموضوعية لإلحاقها بالنظام
الرأسمالي العالمي، تماماً كما تظهر شعارات الثورات البرتقالية.
وإذا كانت تركيا لم تعرف تغييرات راديكالية ، ولا
تزال تتخبّط منذ ذلك الوقت بين الاستقلال والتبعية، بين صناديق الاقتراع وبين
نوبات الديكتاتورية، وآخرها النوبة الأردوغانية، فإن سقوط عائلة القاجار الإقطاعية
في إيران، انتهى بولادة عائلة شاهنشاهية وسلالة جديدة من القوزاق الروس، قبل أن
تسقط على يد الثورة الإيرانية.
ومع الموجة الثانية من ثورات الشرق الأوسط المُبرمجة
كسابقاتها في مطابخ الميتروبولات، عادت المعزوفة الدستورية بأشكال جديدة ، من
العراق إلى إيران وتركيا، إلى سوريا :
1. في العراق، كان أول ما قام به العدوان الأميركي،
هو فرض دستور عراقي جديد باستثناء الحال
الكردية. وقد كلّف الخبير الدستوري،
اليهودي الأميركي، نوح فليدمان، بوضع هذا الدستور، كما زار مصر بعد سيطرة الإخوان
على الحُكم، وناقش معهم عبر فريق هيلاري كلينتون تعديلات مُشابهة.
2. في إيران، أظهرت الاحتجاجات الشهيرة قبل سنوات (اختراقات برتقالية) بدعوى تعديل الدستور أيضاً.
3. في تركيا، أخذت التعديلات الدستورية منحى مضاداً
بالعودة إلى ديكتاتورية السلاطين واستبدادهم.
4.أما في سوريا،
فقد جاءت المسودّة المُقترحة للدستور، من قِبَل منصّة صديقة لا مصلحة لها
في هذا السيناريو لا من قريب ولا من بعيد، ومن السذاجة بمكان منافسة الأطلسي على
الورقة الكردية، عبر اقتراح كهذا سواء جاء من أطراف روسية، أو من أطراف كردية في
منصّة موسكو.
إن البحث عن صيغة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار
مطالب الأكراد وحقوقهم السياسية والثقافية، لا ينبغي للحظة واحدة أن يهدّد الهوية
العربية لسوريا، فضلاً عن التداعيات الأخرى المُريبة للنكهة الليبرالية في المسودّة.
إن كل صيغة تهدّد هوية سوريا ووحدتها التاريخية
وتاريخها وتقاليدها ومكانتها المركزية داخل الأمّة، صيغة تقدّم خدمة مجانية للأجندة
الأطلسية الصهيونية ومشاريع تفكيك الدول والمجتمعات، وإعادة هيكلتها على مقاس
الطبعات المتتالية لمشروع الشرق الأوسط الجديد، كما هو عند شمعون بيريز، وبرنار لويس
ورايس.
وفي الوقت الذي ينبغي فيه الحذر من خلط الأوراق
بين معسكر الأصدقاء والخصوم والأعداء، فإن على موسكو والأوساط الكردية في منصّتها أن
تدرك مدى الخطر الذي تحمله المسودّة المُقترحة للدستور السوري.
بعد حرب عبور السويس وخط بارليف وطريقة إدارة
السادات لها، قال هيكل عن تلك الحال (خسرنا بالسياسة ما ربحناه بالحرب)، وأخذ
الشطط آخرين إلى مقاربات أخرى معروفة، والأفضل أن نتذكّر هيكل أكثر من هذه
المقاربات ونتعلّم منه، فما زال الوقت متاحاً لتربح سوريا وموسكو معاً في السياسة ،
ما تحقّق بالحرب، ولتكن ثغرة الدستور المُقترح المفاجئة، كما ثغرة الدفرسوار، درساً
بليغاً لم يفت أوانه، وقبل الذهاب إلى جنيف بالتأكيد.