حق العودة قبل حلّ الدولتين

هناك ثابتان فلسطينيان كان يتمسّك بهما الشعب الفلسطيني وهما حق العودة وحق تقرير المصير. حصل الفلسطينيون على قرار مائع بحق العودة عام 1948 من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو مائع لأنه طلب من إسرائيل السماح للفلسطينيين بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم في أقرب وقت ممكن، أي وضع مهمة التنفيذ بيد إسرائيل ووفق مزاجها. وانتزعوا حق تقرير المصير من الجمعية العامة للأمم المتحدة أيضاً عام 1974.

يبدو أن البحث عن دولة قد أزاح الثابتين الفلسطينيين ليصبح هناك ثابت جديد وهو إقامة الدولة
ماذا لو قال أحدهم إن الله قد خلق الليل والنهار أولاً، ثم خلق الشمس في اليوم التالي؟ قول مُثير للسخرية بسبب عدم معقوليّته، وبسبب مخالفته الصريحة لقوانين الفيزياء. وماذا لو قال أحدهم إنه سيقيم دولة للفلسطينيين في حين أن الشعب الفلسطيني في أغلبه مشرّد؟ ببساطة هو يستهتر بالعقول وبالتأكيد لا يرمي إلى إقامة دولة. تتكوّن الدولة في أبسط تعريفاتها بالأرض والشعب ومن ثم السيادة. أغلب الشعب الفلسطيني ليس على أرضه، والأرض مُنتهكة وليست محدّدة والسيادة غير مُحقّقة، أي أن الأركان الأساسية الخاصة بتعريف الدولة غير متوافرة، وبالتالي لن تقوم الدولة. والجميع يلاحظون الآن على مستوى العالم أن بعض الفلسطينيين يطالبون بإقامة دولة قبل أن يعود الفلسطينيون إلى بيوتهم وممتلكاتهم. فهل هناك فعلاً جدّية لإقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة/ من دون السكان67؟
هناك ثابتان فلسطينيان كان يتمسّك بهما الشعب الفلسطيني وهما حق العودة وحق تقرير المصير. حصل الفلسطينيون على قرار مائع بحق العودة عام 1948 من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو مائع لأنه طلب من إسرائيل السماح للفلسطينيين بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم في أقرب وقت ممكن، أي وضع مهمة التنفيذ بيد إسرائيل ووفق مزاجها. وانتزعوا حق تقرير المصير من الجمعية العامة للأمم المتحدة أيضاً عام 1974. لم يستفد الفلسطينيون حتى الآن من القرارين وذلك لأن ميزان القوى ما زال يميل بصورة حادّة لصالح الذين لا يعترفون بحقوق الشعب الفلسطيني، وأيضاً بسبب عدم جدّية القيادات الفلسطينية في إنجاز الثابتين.  أي أن الإنجاز الفلسطيني للثابتين ليس مرتبطاً بقرارات الأمم المتحدة وإنما بالقوة، وربما تكون القرارات عاملاً مساعداً للقوة.
إقامة دولة فلسطينية مشمولة ضمناً في حق تقرير المصير، والشعب الفلسطيني يختار ما يريد من الناحية السياسية عندما يصل درجة من القوة توفّر له فرصة تقرير مصيره بنفسه. عندها سيتمكّن من إقامة دولة إن شاء أو الانضمام إلى أية دولة عربية مثل الأردن أو سوريا وفق اتفاقيات حرّة تضمن له استمرار العمل من أجل تحرير كامل التراب الفلسطيني.
لكن يبدو أن البحث عن دولة قد أزاح الثابتين الفلسطينيين ليصبح هناك ثابت جديد وهو إقامة الدولة. والسؤال المطروح دائماً: كيف يمكن أن يكون شكل تلك الدولة الفلسطينية إذا تمت إقامتها خارج حق تقرير المصير. إن لم يتمكّن الفلسطينيون من إنجاز حق تقرير المصير، فإن الآخرين هم الذين سيقرّرون شكل تلك الدولة ونظامها السياسي وعلاقاتها الخارجية وقوانينها الداخلية، وبالتحديد إسرائيل وأمريكا. وكيف ستقوم دولة فلسطينية من دون الناس؟ المنطق البسيط يقول إن الدولة ستقوم بعد أن يعود الناس، أما أن تقوم دولة من دون شعبها فهذا أمر غريب في التاريخ.
كان من الواضح ووفق ما هو مُثبت تاريخياً، هناك من صنع للفلسطينيين هذا الثابت الجديد لكي يُبعد تفكيرهم ونضالهم عن الحقوق الوطنية الثابتة. لقد دخل على الخط أكاديميون أمريكيون مقرّبون من إسرائيل ومن دوائر السياسة الخارجية الأمريكة، وعملوا على إقناع القيادات الفلسطينية للقبول بطروحات سلمية والتخلّي عن النضال من أجل التحرير لأن التحرير غير ممكن، ولن يتمكّن الفلسطينيون مهما حاولوا أن يهزموا إسرائيل ومن وراء إسرائيل. وقد كانت المقولة المناهضة للتحرير تتلخّص بما يلي: الفلسطينيون لا يملكون القوة ولن يتمكنوا من امتلاكها مهما حاولوا بسبب تخاذل البلدان العربية وبسبب وقوف دول قوية بجانب إسرائيل وتقديم كل أنواع الدعم لها. لقد أقنعوا القيادات الفلسطينية أن الحصول على شيء من الحقوق الفلسطينية أفضل من عدم الحصول، وأفضل من بقاء الشعب تحت ضغوط إسرائيلية وأمريكية متواصلة. ببساطة، أيهما أفضل، الحصول على كسرة خبز، أم منع الخبز تماماً عن الشعب الفلسطيني؟ وبدل أن يركّز الناصحون على كيفية تطوير المقاومة الفلسطينية وتحصينها، واتبّاع الأساليب القتالية الحديثة، ركّزوا على الهزائم التي مُنيت بها المقاومة والآلام التي سببّتها للشعب الفلسطيني. وقد وجد هؤلاء آذانا صاغية لدى قيادة منظمة التحرير التي لم تكن تمانع إقامة علاقات مع أجهزة سياسية وأمنية غربية، وكانت تجري وراء الاعتراف الأمريكي بمنظمة التحرير. وهذه الآذان الصاغية أوصلت الشعب الفلسطيني إلى اتفاق أوسلو، وقالت للشعب إن الاتفاق سينتهي بعد خمس سنوات إلى إقامة دولة وعودة اللاجئين. خرج الشعب الفلسطيني يحتفل ابتهاجاً في الدولة وعودة اللاجئين. مرّت السنوات الخمس وتلتها خمسات أخرى، ولم يزدد الشعب الفلسطيني إلا مزيداً من الخيبات والإحباطات.
والسؤال المطروح دائماً: هل الذي يعترف بإسرائيل وينسّق معها أمنياً ويبحث عن دولة في جيبها وجيب الولايات المتحدة يريد فعلاً تنفيذ حق العودة؟ إسرائيل دولة ذات سيادة ومُعترف بها من قِبَل الأمم المتحدة، ولا يجوز التدخّل في حقها السيادي، فكيف للفلسطينيين بعدما اعترفوا بها قانونياً أن يطالبوها بتغيير نسيجها السكاني وإجبارها على قبول عودة ملايين الفلسطينيين إلى بيوتهم وممتلكاتهم؟ هناك مَن يتحدّث أحياناً عن حق العودة في وسائل الإعلام، لكن لا يبدو أن هناك نوايا لتوسيع الحديث ليشمل نشاطات عملية بهذا الاتجاه. ما يلمسه الشعب الفلسطيني أن النشاطات السياسية والدبلوماسية تركّز على إقامة الدولة، في حين لا تشهد المحافل الدولية نشاطات تتعلّق بحق العودة. ولا يوجد على الساحة الدولية الآن مَن يُناصر حق عودة الشعب الفلسطيني إلا بعض العرب والمسلمين مثل سوريا وإيران ولبنان، أما الدول الكبرى مثل الصين وأمريكا وروسيا والهند فلا تأتي على ذكر الموضوع على الرغم من أن القانون الدولي ينصّ على حق عودة اللاجئين إلى أوطانهم. كما أن الميثاق الأممي الخاص بحقوق الشعوب الأصلية يصبّ في صالح اللاجئين الفلسطينيين.
 يعتور مسألة إقامة دولة فلسطينية الكثير من الشوائب وعدم اليقين من حيث أن سيادتها المستقبلية في ما لو قامت ستكون موضع شك كبير. هناك فارق كبير بين دولة تقوم بعد التحرير، وأخرى تقوم على طاولة مفاوضات تتحكّم بها إسرائيل. أما قضية حق العودة فلا غُبار عليها لأنها مسألة قوية ومُقنعة، ولا تستطيع أية دولة الوقوف ضدّها بسبب ما يلفّها من قوانين وقرارات دولية متعدّدة. لكن هناك من يجادل بأن إنجاز حق العودة يتطلّب نضالاً فلسطينياً طويلاُ، وسينطوي على الكثير من المُعاناة للشعب الفلسطيني. والجدلية المضادّة تسأل: أيهما أشد معاناة، ضياع الوطن ومن ثم ضياع الأجيال من الشعب الفلسطيني، أم الإصرار على القتال وتحمّل المُعاناة حتى التحرير؟