عفوك شعب سوريا الحبيب

أكرر ماقلته قبلاً أني كمواطن سوري مستقل، اعتبرت منذ أكثر من عام أن السيد دي ميستورا لم يعد مبعوثاً للأمم المتحدة بقدر ما هو منسق مواقف الدول الراعية للصراع. واعتبرت أنه لم يعد جزءاً من الحل بل من المشكلة. لذا أرفض المشاركة في حفلة وداع دي ميستورا التي تجري بنفاق جماعي دولي وإقليمي وسوري.

طفلة سورية تجسّد آلام السوريين من خلال الرسومات
عندما تتحول أهم المنابر الإعلامية إلى ماخور لسياسات الدول، ويتحول الدم السوري إلى سلعة من سلع صراعات النفوذ، ويدخل من يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد للشعب والثورة في متاهات السياسات الخارجية، وتصلك أخبار الموت المجاني كل صباح ومساء، يصبح الصمت الإعلامي أبلغ خطاب. وكما قلت في مقدمة كتاب "النهاية والبداية":

"الكلمات تذبح على قربان أسلحة القتل الأشد فتكاً، المفاهيم الأكثر مدنية تستباح في مسرح "ثورة الاتصالات"، الإزدراء العلني لعقل الإنسان واحتقار ذكائه وتدنيس وعيه صار البضاعة الأهم في معارك "الصغار" و"الكبار"... تسطيح الشعار والمسار وتعمية الرؤية وحجب الطريق وهدم خيرات البلاد على جثث العباد يسمى اليوم في قاموس أئمة الموت "أنشودة الإنبعاث". جَعلُ الوقائع أكاذيب والعوالم الافتراضية حقائق والتطبيع مع اغتيال الكرامة الإنسانية اليومي: منهج حكم وحسن إدارة للصراعات وموازين قواها. ترسخت حقبة تكريم الارتزاق وازدراء القيم وتحطيم عناصر السيادة وشراء قدماء المناضلين في أسواق النخاسة وتحويل الشبيبة إلى جموع تبحث عن حقها في الحياة في زوارق الموت. حقبة إعادة إنتاج الفساد والاستبداد على أيدي من غيّر سيده وحمل أمراض من أذلّه سُنّة جديدة - قديمة تعلو. زمن اكتشاف الفوارق الميكروسكوبية بين المذاهب وإحياء الأحقاد الدنيئة وبناء عصبيات تُعّلم الإجرام والقتل وتصدّر حثالاتها إلى جبهات جهاد يحرق الأخضر واليابس، صار حاضراً في أعماق النسيج المجتمعي. ما هي التسمية اللائقة بتقديس التوحش وأسطرة الدناءة وتأليه الموت والمُوات؟ في القرون الوسطى اعتبرت الظواهر المدمرة من علامات يوم القيامة، في عصرنا لا يمكن أن نطلق على ما نرى من حولنا سوى عبارة "أيام القمامة".

لقد آثرت الكتابة والبحث أثناء صمتي لأن زراعة النخل تبقى في وعيي العميق أهم من زراعة الفجل. أنجزت أربعة كتب (منبوذو دمشق، النهاية والبداية، الأوجلانية: البناء الإيديولوجي والممارسة، وأخيراً جبهة النصرة: من فقه الدم إلى جهاد الغلبة).. وبدأت العمل على بحث جديد.

لم تكن استقالة من النضال السياسي المباشر، رغم أنني كررت باستمرار لأصدقائي بأن نضالي السياسي هو ابن أوضاع عربية جديدة انطلقت من تونس ورست إلى بلدي سوريا. وسأبقى "سياسياً بالرغم عنه"، ولكن بالمعنى الإغريقي النبيل للسياسة.

حاولنا العمل بصمت بعيداً من الأضواء التي أصبحت المشوه الأكبر لكل مشروع خلاق ومثمر. نظمنا ندوات ثقافية سياسية وعقدنا اجتماعاً"في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 لـ 25 شخصية معارضة من مختلف التيارات والاجتماعات التي أصبح يتعارف عليها باسم "المنصات". من دون وصاية لوجستية أو مالية أو سياسية من أي بلد. تدارسنا الوضع، واتفقنا على عقد مؤتمر موسع للمعارضة الديمقراطية السورية. ومع تسارع الأحداث، اتصلنا بعدد من الشخصيات المخلصة والجادة في مؤتمرات الرياض والقاهرة وموسكو وشخصيات وطنية أخرى من أجل عقد لقاء موسع يضع خارطة طريق مشتركة بعيداً من تقديس ما صدر في القاهرة أو الرياض، والعمل الجاد لتشكيل كتلة تجمع الكفاءة والتمثيل والخبرة. ربما كان الخطأ في إعلام السيد ستافان دي ميستورا بالموضوع من قبل أصدقاء اقترحوا أن ألتقي به، كون مكان الاجتماع هو الأراضي السويسرية، وكون مقر إقامة المبعوث الدولي في جنيف، فليس من اللائق أن لا نعلمه بالأمر.

بالطبع جرت عملية اغتيال الفكرة في مهدها، فبعض الدول، التي حاربت مؤتمر القاهرة كونه خارج "السيطرة" آثرت قتل هذا المشروع في المهد.

كنت من اقترح على الأستاذ الأخضر الإبراهيمي تنظيم دورات تدريب حول التفاوض للمعارضة السورية، ورغم كل العقبات التي وضعت نجح المشروع وجرى تنظيم دورتين في اسطنبول ومونترو في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وقد طلبت من دي ميستورا نفس الطلب ولكنه لم يفعل شيئاً رغم استعداد الخارجية السويسرية لتنظيم التدريب وتغطية تكاليفه. لم يفهم دي ميستورا حتى اللحظة، أن المهم هو اجتماع الأطراف السورية مع بعضها وكسر الحواجز النفسية والسياسية بينها قبل الحضور إلى أية مفاوضات. طريقة دي ميستورا بالية وفاشلة مسبقاً، وقد أضعنا ثلاثة أعوام من عمر الحل السياسي بسبب ضعف شخصيته وخوفه الدائم من أن يوضع "خارج اللعبة". 
وفي الحقيقة فإن مخضرم الدبلوماسية الروسية السيد سيرغي لافروف هو أفضل من فهم نقاط الضعف والقوة عند دي ميستورا، فوظفها بشكل ممتاز بما يتناسب مع الرؤية الروسية للحل السياسي. 

قال لي وليد البني يوماً: لم يكن عندي أوهام باستقلال قرار المجلس الوطني أو الائتلاف، لذا طالبت بواقعية أن يكون في كل هيكل 15 بالمئة من أصحاب القرار السوري المستقل، وعندما فشلت، تقدمت باستقالتي. وقال الفقيد حسين العودات: يجب أن ينجح مؤتمر القاهرة لأنه آخر مؤتمر مستقل للمعارضة السورية. وعندما طالبت مجلس الأمن بمكان لمؤتمر القاهرة في المفاوضات، استاء الطرف المصري واعتبرنا نضعه في حرج مع حلفاء مصر، فلم استمع لاعتراضهم. 
كذلك عندما طُلب منا، روسياً وأميركياً، بعدم وضع أي كوردي في الوفد الذي نشكله. قاطعت وعدد من رموز القاهرة الأساسية المفاوضات. 
قدّم وزير الخارجية المصري ومسؤول الملف السوري وقتئذ وعداً للسيد لافروف بإحضار وفد باسم القاهرة بالشكل الذي طلبه. 
وتم ذلك. وفقدت تجربة القاهرة عذريتها المستقلة بحضور من رضي بالشروط المصرية. فالقاهرة ليست فقط وثائق تشرفت بإعدادها، وإنما أيضاً القرار السوري المستقل.

لم أعتبر السلبية في حياتي موقفاً بناءً، لذا سعينا كديمقراطيين أصحاب سيادة على قرارنا لعقد مؤتمر للمعارضة السورية للمنصات الثلاث وشخصيات وطنية مستقلة منذ شهرين. لأن التفويض للهيئة العليا لعام واحد وانتهى في كانون الأول/ ديسمبر 2016، ومنصة موسكو هي اجتماع تشاوري بين السلطة والمعارضة، ومنصة القاهرة تم اختطافها كما أسلفت بجهود مصرية روسية مباركة. 
لكن دي ميستورا رفض حتى الاجتماع بمن ينظمه، بطلب من دولة فاعلة. ثم أحال الموضوع للسيد رمزي رمزي الذي تحدث مع أحد أعضاء الفريق عن أنه قادر على الاجتماع بعد يومين من التاريخ المحدد لاجتماعنا. طبعاً لم يتصل السيد رمزي حتى اليوم، وجرت عملية إجهاض الاجتماع قبل شبه المفاوضات الحالية. 

لكن مؤامرات العالم لن تنجح في منعنا كسوريين مستقلي الإرادة والقرار من عقد مؤتمر وطني ديمقراطي لمختلف أطراف المعارضة السورية، من دون دولارات ولا خواجات ولا موبايلات، كما قلت يوما للسيد روبرت فورد.

رغم كوني آخر سوري يزور موسكو، بعد وفد أنطاليا ووفد المجلس الوطني، كان بعض المعارضين يتبجح بأنني رجل موسكو.  
وللعلم، كان قرارنا، عبد العزيز الخير ورجاء الناصر وأنا، أن تكون زيارة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وإيران والصين قبل أول زيارة لموسكو، وهكذا حدث.

بعد 30 أيلول/ سبتمبر 2015 بشهرين، قلت للسيد قدري جميل في دعوة لنا من الصديق خالد المحاميد على الغداء في القاهرة، بأنني لن أذهب إلى موسكو حتى يعطي الطرف الروسي الدليل الملموس على أنه يريد أن يكون وسيطاً وليس مجرد طرف. ولكنني لا أمانع من الاجتماع بالخارجية الروسية في أي بلد محايد. وقد رفضت عدة دعوات لموسكو كان آخرها الدعوة لاجتماع 27 كانون الثاني/ يناير 2017. حتى أن سفيراً روسياً قال لي مؤخراً: هل تزاود على الإئتلاف الذي يزورنا، فقلت له هذا موقف مبدئي لا مزاودة ولا مناقصة، لقد أطلقت على الدستور العراقي اسم دستور بريمر، وها أنتم تقدمون مشروع دستور للسوريين الذين شاركوا بوضع دساتير أكثر من ست دول... عيب.

لقد كان موقفنا مع دور للأمم المتحدة دون أوهام، لعلمي بأن هذه المنظمة لم يكن لها الفضل في إنهاء معظم الصراعات التي تدخلت لحلها. لذا أيدنا عقد اجتماع أستانة. وقلت للأطراف الراعية لاجتماع أستانة التي اتصلت بتيار قمح، نحن مع أية مفاوضات لوقف العنف الأرعن والموت المجاني للإنسان السوري. 
ولكن موضوع وقف إطلاق النار، يجب أن يربط بشكل واضح بوضع أجندة وخارطة واضحة لخروج كل المقاتلين غير السوريين من أي بلد أتوا ولأي طرف انضموا. لأن وجود أكثر من سبعين ألف مقاتل غير سوري على الأراضي السورية يعني استمرار الحرب والعنف لأكثر من عقد من الزمن.

أخيراً وليس آخراً، أكرر ماقلته قبلاً، كمواطن سوري مستقل القرار اعتبرت منذ أكثر من عام أن السيد دي ميستورا لم يعد مبعوثاً للأمم المتحدة بقدر ما هو منسق مواقف الدول الراعية للصراع. واعتبرت أنه لم يعد جزءاً من الحل بل من المشكلة. لذا أرفض المشاركة في حفلة وداع دي ميستورا التي تجري بنفاق جماعي دولي وإقليمي وسوري.