هل بدأت القاعدة حربها على قادة المُعارضة السورية؟

يعتقد كبار المنظّرين في هيئة تحرير الشام أن المرحلة القادمة في سوريا قد تؤسّس لظاهرة الصحوات التي شهدها العراق من قبل، وكان لها الدور الأساسي في هزيمة "القاعدة" ومشروعها السياسي، وعلى أنقاضها ظهر تنظيم داعش الذي قطع مع تجربة "القاعدة" واستأثر لنفسه بكل إرث "القاعدة" في بلاد الرافدين.

يريد الجولاني أن يقول: العملية هي إنجاز عسكري كبير يحقّقه المقاتلون في الساحات في حين لا يجني "سياسيو المعارضة" إلاّ الخيبات في مؤتمرات التفاوض
في أول ظهور له، عقب تعيينه قائداً عسكرياً لهيئة "تحرير الشام" المُشكّلة من عدد من الفصائل القريبة فكرياً من تنظيم القاعدة إلى جانب "فتح الشام"، خرج أبو محمّد الجولاني تالياً بياناً باسم "تحرير الشام" يتحدّث فيه عن نقطتين أساسيتين. الأولى: عملية حمص التي أسفرت عن مقتل رئيس فرع الأمن العسكري في حمص العميد حسن دعبول إلى جانب العشرات من عناصر الجيش السوري. والثانية: تظهير الموقف من المفاوضات الجارية في جنيف.
لعلّ فهم المغزى الحقيقي لبيان الجولاني ومعرفة مدى خطورته يتطلّب وضعه في سياقه العام من دون إسقاط التناسب بين عملية حمص التي اُعدّ لها منذ مدّة، وبين رسالة الجولاني الموجّهة إلى وفد المعارضة.
عملية حمص جرت في نفس الوقت التي تجري فيه المفاوضات في جنيف. تعلن "تحرير الشام" مسؤوليتها عن العملية في الوقت الذي كان تقدر فيه على السكوت أو عدم التبنّي تماشياً مع سنّة تنظيم القاعدة في بعض أعماله. لذا إعلان التبنّي كان مقصوداً بدوره. فهي -أي العملية- كانت "يوما يفرح المؤمنين ويغيظ الكافرين"، وفقاً للبيان. 
تزامن عملية حمص مع مفاوضات جنيف لا تخلو من دلالة، وهي لم تأتِ في سياق عبثي بقدر ما كانت تريد إرسال رسالة مزدوجة إلى المعارضة والنظام معاً من ناحية وإلى الدول والجهات الداعمة للمفاوضات من ناحية أخرى. مفاد الرسالة: نحن رقم صعب في المعادلة ولا يمكن تجاوزنا. نحن أصحاب القوة على الأرض وفي الميدان، ومعركتنا هذه ليست معركة من أجل توزيع مناصب وحصص بل نحن أهل الحلّ والعقد وعاقدي لواء الحرب والسلم. ونحن أهل البيت وأوصياء الدم.
بمفهوم آخر يريد الجولاني أن يقول: العملية هي إنجاز عسكري كبير يحقّقه المقاتلون في الساحات في حين لا يجني "سياسيو المعارضة" إلاّ الخيبات في مؤتمرات التفاوض. ولذلك وصف وفد المعارضة بأنهم "منهزمون"، و"يتبعون سراباً"، مطالباً إياهم بالتنحّي، وغسل "العار" الذي تسبّبوا به، ومُتسائلاً: "أما ثبت لهم أن الدولة تلعب بهم، ويصفّق لهم النظام ودي ميستورا؟" 
يعتقد كبار المنظّرين في هيئة تحرير الشام أن المرحلة القادمة في سوريا قد تؤسّس لظاهرة الصحوات التي شهدها العراق من قبل، وكان لها الدور الأساسي في هزيمة "القاعدة" ومشروعها السياسي، وعلى أنقاضها ظهر تنظيم داعش الذي قطع مع تجربة "القاعدة" واستأثر لنفسه بكل إرث "القاعدة" في بلاد الرافدين. إن حصل هذا في سوريا، فهذا يعني نهاية ممجوجة بالحسرة مرتين لتحرير الشام ومن خلفها فكر "القاعدة"، لأن التنظيم سيجد نفسه أمام مواجهة مفتوحة مع فصائل معارضة لطالما دفع نحو تأجيل الصِدام معها ما أمكن. وان التحوّل القادم سيكون مؤاتياً لعودة تنظيم داعش بالاستحواذ على كوادر "القاعدة" وبيئته أقلّه أيديولوجياً.
لذا، تسعى هيئة تحرير الشام إلى إعادة التموضع سياسياً وعسكرياً وشعبياً مع بروز صلابة أيديولوجية مستجدّة بما تراه مناسباً للمرحلة القادمة المتوقّعة. وهي تستثمر في إخفاقات المفاوضات المتكرّرة لإقناع المعارضات السورية غير المنخرطة أو المتردّدة أن المفاوضات سراب وفخ ينصبه لها المجتمع الدولي متواطئاً مع الرئيس الأسد لإعادة ترميم حكمه من جديد، وأن القطع مع المفاوضات الآن سيكون أقل كلفة مما لو استمرت المعارضة تقدّم التنازل تلو الآخر. 
وإن المعركة العسكرية وإن بدا للبعض استحالتها على الحسم، إلا أنها معركة مصيرية فُرضت ولا يجوز معها اليأس والإحباط، فهي جهاد قائم ودائم وهي معركة إحدى الحسنيين: نصر أو استشهاد. وهذا مفهوم ومنطق مختلف تماماً وخارج السياق الذي تدور فيه أجندات المعارضة المفاوضة بالمطلق. ففي الوقت الذي تسعى فيه المعارضة إلى حقن دماء السوريين وفقاً لما تقول تماشياً مع ما يقوله النظام أيضاً، نجد أن هيئة "تحرير الشام" تورد سياقات مختلفة تماماً، مشبعة بالسرديات المؤدلجة حول طبيعة الصراع وأفقه وأبعاده ومراميه.
ومن ملامح ومؤشّرات هذا التموضع هو العودة لانتهاج أسلوب التسلّل والاختراق في أجهزة الدولة وضربها من الداخل إذا أمكن، وهي ‏استراتيجية معروفة لتنظيم القاعدة ومعتمدة بشكل أساسي. تنطلق هذه الاستراتيجية من نظرية مفادها أنه في مرحلة ما قبل "التمكين" وما بعد بناء "الكتلة الصلبة"، تتوجّه الطاقات نحو خلق حال إرباك دائمة تؤدّي إلى استنزاف يتّسع في موارد النظام وطاقاته، مصاحبة لفراغات ضخمة في جدار الاستقرار في البيئات الآمنة والمؤيّدة للنظام، لإسقاط هيبة الدولة أمام الشعب وإظهارها بمظهر القوة الفاشلة العاجزة عن حماية الناس، فتعمّ البلبلة ويحصل التمرّد.
وعلى ما يبدو، فإن الظروف المحلية والإقليمية تفرض بشكل مُتسارع على هيئة "تحرير الشام" أو لنقل "البناء القاعدي" داخلها إلى ضرورة الخروج من ردائها الساتر لأيديولوجياتها العميقة. فنجد في بيان الجولاني دعوة هي أشبه برسالة مشفّرة إلى اتباعه عندما يقول: "تهيّأوا للحرب والقتال، تهيّأوا لتملأوا الشام نصراً وعزّاً، ومجداً، ولتكون كلمة الله هي العليا". 
لا يمكن فهم هذا الوعيد والتهديد أنه موجّه للنظام وحلفائه فقط، وإن كان أمراً بديهياً في الخطاب. بل هو موجه، وربما بدرجة أعلى، إلى قوى المعارضة في الداخل أو في الخارج وإلى كل فصيل سياسي أو عسكري فيها أن القبول أو الانسياق خلف تسوية سياسية في شكلها المعروض من قِبَل الرُعاة لمؤتمري جنيف وأستانة ستضع المعارضة السياسية وقياداتها في خانة "الخوَنة" و"العملاء"، وحينها لن يختلف الحكم في حقهم عن النظام، فسوف تتّسع قائمة الاغتيالات والتصفيات والاستحواذ وربما تصل إلى الفنادق التي تسكنها القيادات السياسية المعارضة في أوروبا وتركيا ودول أخرى. ‏