العريش .. باب الدخول والخروج
العريش، المدينة الثانية في رحلة العائلة المقدّسة إلى مصر بعد رفح. المدينة التي رآها المسيح قبل أن يرى الناصرة، مَهد بشارته، والتي كانت بوّابة وادي النيل أمام العائلة المقدسة في أحضان المصريين. قصة ذكرتها الكتب المقدّسة في سطور وخلّدتها جدران أديرة وكنائس مصر الأثرية بطول نهر النيل. هل أصبحت تضيق الآن بالمؤمنين به؟ لماذا إذن لم تضق بهم من قبل؟ والمقصود بعبارة "من قبل" هنا ليس الماضي البعيد، بل حتى منذ ظهور الجماعات المتشددة وتعاقب اعتداءاتها على أهل سيناء كافّة وعلى الأقباط والصوفيين بشكل خاص، هذه هي المرّة الأولى التي تصرّ فيها الجماعات المسلّحة على دفع الأقباط بشكل جاد للنزوح خارج المدينة بهذا الشكل. فالسؤال النموذجي هنا هو "لماذا الآن تحديداً؟".
والمختلف هذه المرّة والجدير بالملاحظة فقط أن الإقدام على تفريغ مدينة العريش على أسس طائفية جاء بعد تفريغ مدينة رفح المصرية وإخلاء الشريط الحدودي، ثم تحوّل الشيخ زويد إلى أرض ملتهبة بشكل دائم يصعب معه العيش والاستقرار. والآن نحن أمام عنف طائفي وتصفية على أساس الهويّة بمدينة العريش، ذلك العنف الذي اتضح فيما بعد أنه يهدف بشكل مباشر إلى تهجير الأسر المسيحية في المدينة إلى خارجها، ثم تفريغ العريش من أحد أهم مظاهر "المصريّة" وملامح "الدولة الوطنية" التي هي جوهر الحرب بين الجماعات والدولة. في الثاني والعشرين من شباط/ فبراير، اقتحم عدد من المتشددين منزل المواطن سعد حنّا وقتلوه وابنه مدحت، ثم قاموا بحرق جثة الابن وطرد الابنة والأم. وتكررت تلك المأساة منذ عزل محمد مرسي عام 2013 التي لم تصل دائماً إلى مرحلة القتل. ففي بعض الأحيان كانت الجماعات تتبنّى حوادث خطف مواطنين أقباط يطلقون سراحهم بعد دفع الفدية كما حدث في حالة "مينا متري".
وفي واقع الأمر أن الوجود القبطي في النسيج الوطني المصري في الإقليم ككُل لا يختلف عنه في الحَضَر السيناوي، حيث لم تحدث صدامات ذات طابع طائفي بين السكان بعضهم البعض، فالخلافات بين القبائل هي أكثر أشكال الصراعات الاجتماعية شيوعاً في تلك المنطقة.
كما أن الوجود القبطي لم يكن يوماً محلّ أزمة في العريش، المدينة التي حارب لأجلها الجيش المصري بتكوينه الذي يتماثل مع التكوين المجتمعي لمصر. ولم يشهد المجتمع السيناوي مثل تلك الأزمات في ظلّ مثيلاتها في مناطق متفرقة بمصر منذ أحداث الزاوية الحمراء في عهد السادات التي كانت في قلب القاهرة، وهي الحادثة التي راح ضحيتها أكثر من 80 قبطياً قتلهم المتشددون وأنصارهم قبل أن يتستّر رئيس الدولة على الحادثة وينفي عنها البعد الطائفي.
بل إنه أثناء ثورة كانون اثاني/ يناير 2011، ورغم إحراق كنيسة مار جرجس في مدينة رفح المصرية، لم يلتفت أحد إلى الحادث ولم يتطوّر الأمر إلى أي شكل من أشكال الصراعات الطائفية هناك، كما لم يتعرّض أي مواطن مسيحي الديانة هناك للاعتداء. وهكذا لم ينزلق المجتمع هناك إلى أي صراع طائفي خلال الأحداث الشبيهة.
في واقع الأمر إن ممارسة العنف الطائفي والقتل على الهويّة من الجماعات المعادية لمفهوم الوطنية، والتي عملت زعاماتها الإقليمية على تنفيذ وخدمة مصالح الاحتلال الإسرائيلي والنفوذ الغربي في سوريا وغيرها، ما هو إلا استمرار لذلك الخط.
فربما لم تكن صدفة أن يتم تجريد آخر المدن التي تشهد حالة شبه استقرار في شمال سيناء من أحد أهم مظاهر "المصريّة"، بالتزامن مع الحديث عن ضربة جوية إسرائيلية داخل سيناء.
وكذلك بالتزامن مع سحب السفير الإسرائيلي من مصر من دون إبداء اي أسباب، وتكرار الحديث الرسمي من حكومة الاحتلال عن خطورة الوضع في شمال سيناء على الأمن الإسرائيلي. وأيضاً الكشف عن تفاصيل اجتماع العقبة والتلويح بقصة "الوطن البديل" بتوطين فلسطينيي غزة في رفح المصرية، الأمر الذي نفته الخارجية المصرية بشكل قاطع.
تلك الخطوط المتقاطعة في نقاط عديدة هي بالتأكيد أكثر خطورة من مجرّد حادثة تصلح للكيد بين حكومة ومعارضة، ليست كارتفاع الأسعار أو انخفاضها.
الأمر هنا يتعدّى التصريحات الرسمية التقليدية عن الوحدة الوطنية العصيّة على مخططات التفرقة وتقليل بعض الجهات من حجم الحدث، فقد تعني حادثة كتلك نهاية مرحلة في الصراع الدائر في المنطقة ودخول الأهداف المباشرة من ذلك الصراع إلى حيز التنفيذ، الأمر الذي يحتاج إلى أدوات مختلفة وبصيرة أكثر اتساعاً للتعامل مع ما هو قادم.