حاطلع القمر بقى
هذا الجدل العقيم ليس سعياً مني لمعرفة الجاني فقد رأيته بعيني رأسي ولا أحتاج لأدلّة ولا ألف حكم محكمة سوف يقنعني أن أكذب عيني. لكنه جدل سيتم طرحه وأسئلة يجب الإجابة عليها في كتب التاريخ التي سيدرسها من يأتي بعدنا.
إنه في يوم الثاني من مارس، قضت محكمة النقض بتأييد الحُكم ببراءة المتّهم محمّد حسني إبراهيم السيّد مبارك من تهمة قتل متظاهري 25 يناير، في ما عُرف بقضية القرن.
بالطبع، فقد توقّع الجميع هذا الحُكم المؤيد لحكم البراءة الصادر في عام 2014، وبالطبع، شعر هذا "الجميع" بالغصّة والألم.
لم أشعر بنفسي إلا وأنا أتمتم: "حق الشهدا عندك يا رب.. حق الشهدا عندك يا رب.. رفعنا قضيتنا أمام الديّان الذي لا يغفل ولا ينام".
بالعودة إلى حيثيات الحُكم الصادر في عام 2014 فإن القضية افتقرت إلى أدلّة الإدانة للأسباب الآتية:
1- لم يتم تقديم أي محضر لاجتماعات رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية والتي عُقدت قبل وإبّان التظاهرات. وقال أحد الشهود بأنه قد جرى العُرف بأن قيادات وزارة الداخلية تتلقّى الأوامر شفاهية من وزير الداخلية ولم تعتد الوزارة تدوين جلساتها في محاضر مكتوبة. وكذا بالنسبة لاجتماعات رئاسة الوزراء التي لم تدوّن جلساتها بشأن التصدّي للتظاهرات في أي محضر مكتوب (ضحكة تصل إلى القهقهه).
2- أن شهود الإثبات هم مجموعة من اللواءات والضبّاط العاملين بوزارة الداخلية إلى جانب المشير محمّد حسين طنطاوي.
(ترفيس ضحك بقى)
وبناء عليه، فلا توجد أدلّة مكتوبة بأن وزير الداخلية، ومن خلفه قيادات الداخلية، قد أصدروا أوامر مباشرة باستخدام العنف ضد المتظاهرين، ولذا فقد حكمت المحكمة ببراءة الوزير وقيادات الداخلية، ومن ثم فقد ترتب على ذلك براءة رئيس الجمهورية آنذاك محمّد حسني إبراهيم السيّد مبارك.
ومرة أخرى لا أعلم كيف سيدوّن هذا الفصل من التاريخ في كُتب التاريخ المصرية والإنسانية:
هناك قتلى، وفقاً لحكم المحكمة لم تقتلهم عناصر الداخلية، لإنه لا دليل مكتوب أو مدوّن أو مسجّل أو مصوّر يظهر الرئيس المخلوع أو وزير داخليته أو رئيس وزرائه وهم يقولون: اقتلوا المتظاهرين.
أما الشهود فهم من وزارة الداخلية، ومن غير المتوقّع أن تعترف عناصر الداخلية على نفسها بالقتل، فقد قال الشهود من اللواءات والضبّاط بأن وزير الداخلية قد أمرهم بحماية المنشآت الحيوية، وأنه في حال اعتداء المتظاهرين على هذه المنشآت عليهم استخدام خراطيم الماء والغاز.
لن أحكي عن تجربتي الشخصية، وعن الدماء التي رأيتها تسيل والجثث، سأحيل القارئ إلى فيديو مصوّر لثورة يناير، حيث تقوم الشرطة باستخدام خراطيم المياه ضدّ المصلّين على كوبري قصر النيل! طيّب إذا كانت الشرطة قد تلقّت الأوامر باستخدام المياه ضدّ المتظاهرين في حال اعتداءاتهم على المنشآت الحيوية، فلماذا استخدمت خراطيم المياه ضدّ المصلّين على الكوبري؟ هل في الصلاة أو في الوقوف على الكوبري أي اعتداء ضدّ المنشآت الحيوية؟
كنت أقف وقتها في الخلف ورأيت شاباً محمولاً على الأعناق ينزف دما.
فمن أين أتت هذه الدماء؟
هؤلاء قتلى لا قاتل لهم.
بحُكم المحكمة... قتلى لا قاتل لهم.
لا أعلم لماذا لم يتم طلب شهادة أحد المتظاهرين؟
وكيف لجهاز حيوي وسيادي في الدولة أن يعقد اجتماعاته من دون أن يدوّن نتائج الاجتماع في محضر اللّهم إلا إذا كان يتصرّف بأسلوب العصابات والمافيا؟
بالطبع لا توجد محاضر. ماذا سيكتب في هذه المحاضر؟ هل سيكتبون: اقتلوا المتظاهرين؟
ثم إن وزير الداخلية، مع وضع تاريخ الداخلية الطويل في الاعتبار، لا يحتاج إلى نطق الأمر: اقتلوا المتظاهرين. يكفي أن يقول في الاجتماع: يجب التعامل مع التظاهرات بحزم. وهم فاهمين بقى الحزم ده بيتعمل إزاي؟ واحنا فاهمين الحزم بيتعمل إزاي؟ والدنيا كلها فاهمة الحزم بيتعمل إزاي؟
تم إزالة بيان الداخلية السابق على أحداث 25 يناير 2011 من موقع الوزارة، لكن ما أذكره أنه كان شديد اللهجة، ويتوعّدنا بالحزم والحسم، وأكيد الحزم والحسم دول مش قصدهم بيهم أنهم حيشخطوا فينا ولا حيبرقوا لنا.
كما إن القاتل يحاكم بالقانون الذي وضعه هو.
جاء في حيثيات الحُكم أن المحكمة لم تجد أدلّة قاطعة يرتاح إليها ضميرها كي تدين المتهمين بالقتل. وكل الأدلّة المقدّمة إلى المحكمة جاءت من وزارة الداخلية! الطرف المتّهم. وحسبنا الله ونِعم الوكيل.
لا أدري كيف لا يتم استجواب مصابي الثورة في هذه القضية؟ الأمر سهل، يمكن سؤالهم: من الذي أطلق على عينك أو كتفك أو قدمك الرصاص؟ هل رأيت ضابط الداخلية وهو يقوم بذلك؟
طيّب، لو إنه ضابط واحد، أو اثنين، أو عشرة، يمكن أن نعتبر هذه الحالات فردية، لكن أن يكون هذا هو المنهج الشائع في تعامل الداخلية مع المتظاهرين فلابدّ أنها بالأمر... لا يمكن أن يتواطأ كل هؤلاء الضباط الصغار على مخالفة أوامر الوزير.
لم أقترح أن يتم استخدام التسجيلات المصوّرة التي تظهر بوضوح الضبّاط وهم يطلقون الخرطوش والغاز والرصاص أو وهم يدهسون المتظاهرين بمدرّعاتهم. ولا أعلم لماذا لم تعتبر المحكمة هذه التسجيلات المصوّرة، وتقوم بعرضها على لجنة للتأكّد من صحّتها وبأنها ليست مفبركة؟
ولم أقترح طلب شهادة المتظاهرين. فقط شهادة المصابين... لماذا لم يتم استجواب المصابين؟ مين يابني اللي ضربك؟
طيّب الأطباء... لماذا لم يتم استجواب الأطباء الذين عالجوا المصابين في القصر العيني لمعرفة طبيعة إصاباتهم؟
طيّب أطباء التشريح في محكمة زينهم، طيّب عمال المشرحة الذين قاموا بتغسيل الجثث وخرج أحدهم باكياً وهو يقول: شباب زي الورد يا رب.. شباب زي الورد.
هل يعقل أن تتهم الداخلية بقتل المتظاهرين فيستجلب شهود "الإثبات" من الداخلية ليتحوّلوا إلى شهود نفي؟
ويأخذ حبيب العادلي فرصته كاملة في الرغي والدشّ والتحدّث بجهل وصفاقة.
إذن فمبارك بريء.
والعادلي بريء.
والداخلية بريئة.
ولدينا قتلى يزيد عددهم عن 800 قتيل في ثلاثة أيام منذ بدء الأحداث في 25 يناير 2011 وحتى جمعة الغضب في 28 يناير 2011... يوم المقتلة الكبرى.
من القاتل؟
تقول الشيخة ماجدة أحد مؤيّدي مبارك، أو "مباريك" كما تحب أن تنطق هي اسمه: أنا كنت واقفة على الكورنيش في ميدان عبد المنعم رياض جنب برج القاهرة، ولقيت ظابط إيراني طلع لي من البحر وقال لي: إحنا أشراف زي بعض وأنا لازم أقول لك... إحنا جايين نقتل المتظاهرين.
ثم أضافت موجّهة خطابها للمذيع: طبعاً حضرتك عارف الإيرانيين كلهم أشراف.
فسألها المذيع: يعني اللي قتل المتظاهرين إيرانيين؟
فقالت: اللي قتل المتظاهرين حماس وفلسطين وإيران وحزب الله وإسرائيل وأمريكا.
لكن اللجان الإلكترونية الآن تقول بإن جماعة الأخوان المسلمين هي من قتلت المتظاهرين كي تسقط مبارك!
وهذا من أعجب العِجاب، تمكّنت جماعة الأخوان المسلمين وهي خارج الحكم من قتل ما يربو على 800 قتيل في ثلاثة أيام ولم تتمكّن من قتل نفس العدد وقت أن كانت في الحكم! بالطبع قامت الجماعة بالقتل، لكن إمكاناتها اللوجيستية وعدم تعاون جهاز الداخلية معها لم يمكنها من قتل العدد الذي كانت تنشده لقمع الثورة ضدّها. الجماعة قتلت... عشان بس ما يظبطوش وهم بيحبوا الظباط، لكن ليس بالعدد المطلوب لقمع ثورة، لا لأنهم لم يرغبوا، ولكنهم لأنهم لم يتمكنوا.
ثم إنه إذا كانت فلسطين وحماس وإيران وحزب الله وإسرائيل وأمريكا والأخوان هم من قتلوا المتظاهرين، لماذا لم يتم تقديم أدلّة بذلك إلى المحكمة. فالجهة التي كانت تقدّم الأدلة هي وزارة الداخلية، وقد تمكّنت من تبرئة عناصرها ووزيرها السابق، فالورق ورقهم، والسجلات سجلاتهم، وهم أصحاب الفرح، لماذا لم تقدّم أدلّة واضحة تمكّنت من الوصول إليها عبر تحرياتها بتحديد هوية القاتل؟
هذا الجدل العقيم ليس سعياً مني لمعرفة الجاني فقد رأيته بعيني رأسي ولا أحتاج لأدلّة ولا ألف حكم محكمة سوف يقنعني أن أكذب عيني. لكنه جدل سيتم طرحه وأسئلة يجب الإجابة عليها في كتب التاريخ التي سيدرسها من يأتي بعدنا.
أما حق الأبرياء، فهو عند الله، والقاتل يعلم أنه قاتل، ونحن نعلم، والله يعلم.
والله من ورائهم محيط.