تركيا وسنوات الحرب في سوريا

أطاحت الأزمة بـ نظرية "العمق الاستراتيجي" وصانعها داوود أوغلو، وبحلم أردوغان بالصلاة في الجامع الكبير في دمشق. وبعد أن كانت عين أردوغان على دمشق، تراجع إلى حلب القريبة، وإذ تعثّر فيها، انتقل إلى إدلب وجسر الشغور ليقيم فيهما إمارة موالية له تحت حُكم "جبهة النصرة"، ولم يعد يإمكان أردوغان التفكير بشرق الفرات، ولا الساحل السوري، ولا المنطقة الجنوبية، ولذا فقد تركّزت جهوده على مدينة الباب ومحاولة إقامة "منطقة آمنة" في شمال سوريا.

قوات تركية في مدينة الباب السورية (أ ف ب) من الأرشيف
بعد سنوات من تورّط تركيا في الأزمة السورية تبين أن الأزمة كانت كاشفة للسياسة التركية، فقد أظهرت رهانات حادّة لدى نظام الحُكم في تركيا، وإلى أي مدى هو مستعد للانخراط في سياسات معقدّة والتخلّي عن التزاماته وصداقاته أمام ما عدَّه هو مصالحَ حيوية له، كما كشفت الأزمة عن حدود تلك السياسة وقيودها والبُعد المغامر فيها. وإذ حاولت تركيا أن تكون عاملاً مُقرِّراً في مسار الأزمة السوريا، فقد كان للأزمة تأثيرات "مُقرِّرَة" في سياسة تركيا الداخلية والخارجية.

يمكن الحديث عن أطوار للموقف التركي تجاه الأزمة، فمن اندفاعة كبيرة للإمساك بالحدث والدفع باتّجاه إسقاط النظام والسيطرة على سوريا، إلى إدراك مُتزايد لحدود إمكاناتها وصعوبة التدخّل فيها بشكل منفرد، وكذلك صعوبة استدراج الولايات المتحدة وحلف الناتو إلى مواجهة مباشرة مع دمشق وحلفائها، إلى تراجُع الغرب عن تفويضه لها بإدارة الأزمة، إلى التوتّر والصِدَام المباشر مع روسيا.

وأمام دخول الولايات المتحدة المباشر على خط الأزمة، ودخول الأخيرة في تفاهمات واتفاقات متتالية مع روسيا، فقد بدت الأمور أكثر صعوبة أمام تركيا، واضطرت الأخيرة –بعد ذلك- للتقارّب مع كل من روسيا وإيران، تمخّض عنه تحرير حلب، وبعد ذلك "إعلان موسكو" و"اتفاق أستانة"، والذي أعقبه تراجعٌ تركي عن التزاماته فيهما مع أول إلماحة من قِبَل ترامب بشأن إقامة "مناطق آمنة" في سوريا.

تقف تركيا اليوم بين – بين، بين أن تستمر في التعاون مع روسيا وإيران حول الأزمة السوريا، أو أن تستمر في رهاناتها على علاقة أكثر براغماتية مع الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، وكلا الخيارين يمثّل فرصة وتهديداً في آن، وإذ يصعب عليها اختيار أحدهما من دون الآخر، فإن آمالها تتركّز في محاولتها التمسّك بهما معاً، وأن تكون على جانبي الحرب السوريا، فتتوقّى مخاطرها ما أمكن، وتكسب منها ما أمكن أيضاً، في استعادة بيِّنَة لسياسات المسألة الشرقية، عندما استطاع "الرجل المريض" اللعب على تناقضات الأطراف الدولية آنذاك لكسب المزيد من الوقت قبل الانهيار المحتوم.

أظهرت تركيا تغيّراً نسبياً في نمط الخطاب والسلوك تجاه سوريا، وتراجعت عن هدف إسقاط نظام الرئيس الأسد، وقبلت –على مَضَض- بوجود الجيش السوري في مناطق شمال سوريا مثل مدينة منبج، ولو أنها كانت تُصدِر في كل مرة تصريحات مُتعاكسة. والواقع أن إخفاقها في الأزمة السوريا كانت له ارتدادات على سياستها الداخلية والخارجية.

أطاحت الأزمة بـ نظرية "العمق الاستراتيجي" وصانعها داوود أوغلو، وبحلم أردوغان بالصلاة في الجامع الكبير في دمشق. وبعد أن كانت عين أردوغان على دمشق، تراجع إلى حلب القريبة، وإذ تعثّر فيها، انتقل إلى إدلب وجسر الشغور ليقيم فيهما إمارة موالية له تحت حُكم "جبهة النصرة"، ولم يعد يإمكان أردوغان التفكير بشرق الفرات، ولا الساحل السوري، ولا المنطقة الجنوبية، ولذا فقد تركّزت جهوده على مدينة الباب ومحاولة إقامة "منطقة آمنة" في شمال سوريا.

وبعدما كانت تركيا أحد محرّكات مجموعة "أصدقاء سوريا"، فقد طرأت تحوّلات كبحت موقفها، ولو أنها بقيت تتحيّن الفُرَص لمعاودة طرح خططها المعادية لسوريا، وعملت كل شيء ممكن من أجل توريط الناتو والولايات المتحدة في حرب مباشرة ضدّها، وجعل أردوغان من تركيا نفسها "باكستان أخرى" لـ "أفغانستان أخرى" في جنوبها. صحيح أن تركيا تمكّنت بمنطق المساومة من أن تضمن تأييداً روسياً إيرانياً لعملية جرابلس، إلا أن الثمن كان كبيراً، وهو تخلّيها هي عن دعم الجماعات المسلّحة في مدينة حلب.

أما على صعيد الداخل التركي، فقد اتّجهت الأمور للمزيد من الاستقطاب بين الترك والكرد والعرب والشركس والشيشان وغيرهم، وكذلك الأمر بالنسبة للعلويين والسنّة والطُرُق الصوفية وغيرها. وقد تكشّفت الأزمة عن صدوع، ومن ثم حرب شاملة داخل التحالف الحاكم لتركيا بين الحزب (حزب العدالة والتنمية) والطريقة (حركة خدمة)، وصدعت البنى العميقة لحزب العدالة والتنمية، ولذلك أسباب أخرى بطبيعة الحال قد لا تتصل مباشرة بالأزمة السوريا.

وجاء في معطيات مكتب الإحصاء التركي (2016) مؤشّرات ذات دلالة، وخاصة انخفاض نسبة الثقة على صعيد التفاعلات الاجتماعية في تركيا إلى أقل من 8%، وهذا من الأمور التي تعزّز ديناميات إقامة نظام "توتاليتاري"  أو "توتاسلطاني"، إذا صحّ التعبير. هنا يبدو أن أردوغان تمكّن من تدوير نتائج فشله في سوريا ليصبّها في مصلحته داخل تركيا.

في ما يخصّ السياسة الخارجية، مرة أخرى، فثمة عودة إلى "ديناميات المسألة الشرقية"، لجهة نظام الاختراق والتغلغل العالمي في المنطقة، وضبط سياساتها والحديث المُتكرّر عن مراجعة الحدود والسياسات والجغرافيا السياسية والدولتية الخ ، وهنا من المحتمل أن تكون تركيا في قلب تلك الديناميات المُستعادة، ومعلوم أن الدولة العثمانية بقيت أكثر من مئتي عام بفعل تلك الديناميات، وليس بفعل عوامل تماسُك أو بقاء ذاتية.

وبفعل تلك الديناميات أيضاً تمكّن أردوغان من ضمان دعم روسيا وإيران خلال عملية الانقلاب تموز/يوليو الماضي وبعدها، وكذلك دعم واشنطن له –أو عدم تخلّيها عنه- في تورّطه في سوريا، حتى مع استهدافه لحليفها الكردي السوري. وعلى الرغم من تراجع عوامل ثقة أولئك بأردوغان إلا أن علاقتهم به ورهانهم عليه، لا يزال قوياً.

يمكن الإشارة إلى متلازمتين تحكمان جانباً كبيراً من الظاهرة التركية بعد سنوات من التورّط في الأزمة السوريا، الأولى هي "متلازمة لوزان" والهدف منها تفكيك العَقْد المؤسّس للجمهورية من أجل إقامة عَقْدٍ عثمانوي أو سلطاني جديد؛ والثانية هي "مُتلازمة الأسد"، بمعنى عقدة الموقف من الرئيس بشّار الأسد، ذلك أن أردوغان لم يتمكذن من إسقاطه، وهو لا يستطيع –بعدُ- تقَبُّل استمراره في الحُكم، وسوف يكون لهذه المُتلازمة ما بعدها في السياسات التركية في مقبل الأيام.