من أجل إنجاح الحل السياسي العادل

قبل أيام، قدّم السيد ستيفان ديميستورا لمجلس الأمن صورة عن "الإنجازات" التي حدثت في جنيف 4، وبعد أيام، تأتي الذكرى السادسة لانطلاقة درعا المدنية السلمية التي أطلقت شرارة الثورة على الفساد والاستبداد. فأين نحن، كسوريين مما حدث ويحدث، وهل صار من طبيعيات الأمور أن يضع غير السوريين معالم الطريق للخلاص من العُنف والنظام القديم؟

المعركة السياسية أصعب وأهم من كل المعارك العسكرية
تعرّض الصوت السوري المستقل منذ الأيام الأولى لكل محاولات الاغتيال، أول الأمر من السلطات الأمنية التي ورّطت الجيش في مواجهة مباشرة مع المجتمع الثائر. ثم امتد الأمر ليشمل "أصدقاء" الشعب السوري و"أصدقاء" النظام. فصار الجميع يتحدّث عن "تعريب" القضية" ثم "دولنتها". وفي أرض الواقع اليوم، يجري الحديث عن فرض حل إقليمي دولي على السوريين.

لقد ناضلت، كمواطن سوري، حوراني الولادة، سوري الإنتماء، في صف المظلومين والضحايا. ومن أجل هؤلاء، كانت لديّ قناعة عميقة بأن كل يوم إضافي في القتال والمواجهة بين السوريين، هو عملية قضم تدريجية لقرارهم السيادي في تقرير مصيرهم. أيّدت مبكراً عقد اجتماع للمعارضة فشاركت في اجتماع القاهرة الذي نظّمته الجامعة العربية في تموز 2012. ثم في مؤتمر جنيف الأول في كانون الثاني 2013 من أجل سوريا ديمقراطية ودولة مدنية، لم أترك محفلاً أو عاصمة من أجل الدفاع عن حل سياسي عادل وقابل للتحقّق. شاركت في منتدى موسكو، ودعمت بما أستطيع مؤتمر القاهرة في حزيران 2015. وتوجّهت مع وفد إلى فيينا لإسماع صوت العقل والعدل. وأخيراً شاركت في مؤتمر الرياض وانتخبت في الوفد المفاوض عن المستقلّين.

قال أحد الأصدقاء لوزير دولة كُبرى عندما سأله: لأية دولة يعمل السيّد المحاميد، الجواب التالي: "خالد المحاميد، فقد من أهله وأنسابه وأصدقائه أكثر من 600 شهيد، ولو ترك العنان لعواطفه لأصبح داعشياً، ولكن والحمد لله، وضع مصلحة الإنسان السوري ومصلحة الوطن أولاً، لذا يعمل ما بوسعه لإنجاح حل سياسي على أساس القرارات الدولية". فقال الوزير: أنا آسف، لم تكن لديّ فكرة عنه إلا كرجل أعمال.

في اجتماع على السكايب مع نخبة من الشخصيات المعارضة، قدّم المشاركون لي التعزية بفقدان خمسة شهداء من عائلتي، ولكنهم أيضاً قدّموا التعزية للصديق آصف دعبول لاستشهاد أخيه في صفوف الجيش السوري. ولعل هذه الصورة تعكس ما آلت إليه الأوضاع اليوم: الشعب السوري يدفع فاتورة الدم في حين تبحث الدول الإقليمية والدولية عن حصّتها في ما ينطبق عليه بحق "الصراع على سوريا"، وليس الصراع الاجتماعي السياسي في سوريا.
 

شاركت في وفد الهيئة العليا المفاوض في جنيف 3 وجنيف 4. وأعلَم بدقائق وخفايا الأمور كما يقولون. ولكنني، وحرصاً على سوريا والشعب السوري، لا أقول كل ما أعرف، فليس كل ما يُعرف يُقال في أوضاع صعبة ومعقّدة كالتي نعيشها اليوم. ومن المؤسف أن تستنفر الجهد من أجل وفد موحّد للمعارضة وأنت تعرف أن أكثر من نصف وفد الهيئة العليا كان في مؤتمر القاهرة ومنتدى موسكو؟ أو أن ترى ديمقراطيين اعتبروا "الميثاق الوطني السوري" مرجعيّتهم، يتراجعون إلى الحديث عن آليات ديمقراطية. وأخيرا أن نرى الاستقتال والاستبسال، ليس في جبهة الدفاع عن انتقال سياسي قولاً وفعلاً، وإنما لمقعد هنا وصورة أمام الإعلام هناك. كم من الضحايا خسرنا، ألا يستحقّون، بعد كل هذه المآسي، أن تمثّلهم الجدارة والكفاءة والإخلاص، عوضاً عن معارك الكراسي الوضيعة؟

خرج رؤساء الوفود يتحّدثون عن إنجازات. وكتب المحامي محمّد صبرا: "جنيف 4 لم يُسفِر عن شيء إيجابي ولم نتّفق على شيء والنظام لم يوافق على شيء، البعض يعشق الإنجازات الوهمية لأنه يحب دور البطل". ووصلني قبل يومين حديث السيّد ستيفان ديميستورا أمام مجلس الأمن: شكر لكل المدعوين للمشاركة في الاحتفال الترحيبي كما أسماه، ثم انتقل للسلاّت الأربع التي تم الاتفاق عليها كما يقول.
 

السلّة الأولى حول إنشاء هيئة حُكم ذات مصداقية وشاملة للجميع وغير طائفية خلال ستة أشهر

السلّة الثانية  فترة مُستهدفة قدرها ستة أشهر بتحديد جدول زمني وعملية لصوغ دستور جديد

السلّة الثالثة عملاً بالدستور الجديد إجراء انتخابات حرّة ونزيهة خلال 18 شهراً

السلّة الرابعة: تتناول القضايا المُتعلّقة بمُكافحة الإرهاب وهيئات إدارة الأمن وكذلك تدابير بناء الثقة.

من الناحية الشكلية، لم تجر الموافقة على السلّة الرابعة من قِبَل وفد الهيئة العليا للتفاوض.

من الناحية العملية وفي المضمون، يذكّرني مشروع السيّد ديميستورا بما كان أستاذ الأمراض النفسية يقوله لنا في الجامعة عند تعريف البارانويا: "المُصاب بالبارانويا يضع مخططاً هندسياً نظرياً ممتازاً للجسر، المشكلة أنه لا يضع الجسر على النهر، بل في جواره".

يتحدّث النظام السوري منذ 6 سنوات عن أزمة. فلو قبلنا جدلاً بمصطلحه، ونظرنا في القاموس، نجد أن الأزمة هي حال عطب واستعصاء في نظام الحُكم والدولة. وللخروج من هذه الحال، لا يمكننا وضع الطابق الجديد في البناء فوق الطابق القديم، لأنه سيسقط معه في أول هزّة. من هنا كان تأكيدنا في مؤتمر القاهرة على أن موضوع هيئة الحُكم هو موضوع بنيوي وليس شكلياً وسطحياً. وأن أي انتقال يتطلّب وضع الأصبع على الجرح والبحث عن علاج للخلايا السرطانية التي انهكت جسم الدولة.

في بلدان الجنوب كافة، ثمة مشكلة مركزية متضخّمة حينا ومقيّدة حينا آخر، عميقة حيناً، ومستحدثة في أحيان أخرى. هذه المشكلة لا تتعلّق بالسلطة التنفيذية أو التشريعية بالمعنى المباشر، وإنما بالمؤسسة العسكرية وعقيدتها ودورها السياسي أولاً، والسلطة القضائية وتبعيّتها وتغييبها ثانياً. وكما نرى في المثالين المصري والتركي. عندما جرى تحرّك الأول أو مصادرة استقلال الثاني، أدّت الأمور إلى ما وصلت إليه.

من هنا، ورغم أنني درست الطب وكسبت عيشي كرجل أعمال، فأنا أرى أن مُعضلة بناء جيش وطني يمثّل المجتمع والمواطنة، بعقيدة قتالية قائمة على الدفاع عن الوطن وحماية المواطن، بعيداً عن أية إيديولوجية إثنية أو دينية، يشكّل الخطوة الأساسية للانتقال من نظام الحزب العقائدي والجيش العقائدي، الذي طبّقه النظام وتحمل رايته الفصائل الجهادية والكردية أيضاً، إلى نظام دولة سورية مستقلّة عن الإيديولوجيات التي تقسّم البلاد وتفرّق بين المواطنين في البلد الواحد. وما لم نباشر، عبر مجلس عسكري وطني جامع، هذه العملية، سيأتي أي وزير "ديمقراطي" غداً ويطالب بتنظيف السجون، فلا يجد من يستجيب لقراره.

يتكهرب النظام وأطراف عديدة في المعارضة من كلمة "العدالة الانتقالية". ويتصوّرون أنفسهم أمام محكمة لمجرمي الحرب وتجّار الحرب. ولكن هل يمكن في أيّ صراع أو حرب، أن نضع حداً لآلام وأحقاد الموت والقتل، من دون المباشرة في بناء سلطة قضائية مستقلّة. في جنوب إفريقيا، طالب عدد من الأحزاب العنصرية وبعض قياديي حزب المؤتمر الوطني بتأجيل الحديث في لجان الحقيقة والعدالة والمصالحة. وكان موقف نيلسون مانديلا حكيماً وصارماً: "لا يمكن تأجيل هذا الموضوع، فإذا بقي موضوع العدالة بيد السياسيين، لن تقوم دولة قانون في جنوب إفريقيا في يوم من الأيام".

 إن مباشرة العمل على بناء سلطة قضائية مستقلّة، تعمل في المرحلة الانتقالية وفق مبادئ انتقالية استثنائية تناسب هذه المرحلة، وتضع لُبنات قوية لسلطة قضائية مستقلّة لسوريا الغد هو الضمان الأساس للسلم الأهلي وقتل الأحقاد ووضع العدل فوق الثأر. في جنوب إفريقيا رأت هذه اللجنة ضرورة العمل الجدّي والهادئ على التوثيق والاستماع للشهود، وفي سنوات الدم الحامي كما يُقال لم تصدر حكماً واحداً، ولكنها وضعت الأساس السليم والصُلب لعدم جعل غياب المُحاسبة قاعدة هشّة في البناء الجديد.

هذه الأمور، تشكّل سلالاً عملية وضرورية لكل من يتحدّث بالانتقال، وإلا فإن سلطة هيئة الحُكم لا تتعدّى تغييراً في بعض الأشخاص، وفي أحسن الأحوال، أو أسوأها، تقاسم المناصب في إعادة إنتاج النظام القديم.

هذه الملاحظات أقولها اليوم، لأنني أعتبر أن المعركة السياسية أصعب وأهم من كل المعارك العسكرية، وإذا لم ننجح في وضع أسُس سليمة لدولة عدل وقانون، فلن تنجح هيئة الحُكم الموعودة في إعادة الأمن أو إعادة البناء.