"لا" أوروبية لإردوغان
تركيا على مفترق طريق بانتظار الاستفتاء الشعبي بشأن التعديلات الدستورية التي تمنح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صلاحيات واسعة.
اعتبر إردوغان إجراءات هولندا وألمانيا بمثابة "حرب صليبية"
معركة
حياة أو موت تلك التي يخوضها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من أجل الحصول على الغالبية
في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والذي تجعل نظام الحكم في البلاد نظاماً رئاسياً
تتمركز فيه الصلاحيات في يد رئيس الجمهورية. والمسألة ليست دستورية فحسب، بل يطغى عليها
الجانب الشخصي والطموح السياسي لإردوغان الذي تضمن له التعديلات الدستورية البقاء في
السلطة أقلّه لمدة عشرة أعوام مقبلة.
وهذا
يفسر الكثير من الأسباب التي تحمل الرجل على تبني خطاب بهذه الحدّة حيال دول أوروبية، مثل ألمانيا وهولندا والنمسا وغيرها ممن رفضت السماح لوزراء أتراك بزيارتها لإلقاء
خطب في تجمعات يقيمها أنصار حزب العدالة والتنمية للمتحدّرين من أصل تركي في هذه البلدان،
بغية حضّهم على التصويت بـ"نعم" في الإستفتاء الذي سيجري في 16 نيسان/
أبريل المقبل.
لقد
اعتبر إردوغان منع وزرائه من زيارة هولندا ورفض ألمانيا استقبال وزراء أتراك أو منع
بلديات عدد من المدن الألمانية إقامة تجمعات للمهاجرين الأتراك، بمثابة "حرب صليبية"
و"فاشية وعنصرية قاسية" من الدول الأوروبية. لكن ما ينبغي التوقف عنده بكثير
من التأني وإمعان نظر، هو أن يطلق الرئيس التركي تهديداً ضمنياً لدول الإتحاد الأوروبي
بأن في مقدوره أن يجعل مواطني هذه الدول لا يشعرون بالأمان وهم سائرون في شوارع بلدانهم.
وهو كان يلمّح في ذلك إلى عزمه إعادة النظر في اتفاق الهجرة مع الإتحاد الأوروبي الذي
تقيّد فيه تركيا تدفق اللاجئين السوريين والعراقيين وغيرهم من أراضيها في اتجاه القارة
الأوروبية، مقابل حصول أنقرة على مساعدات مالية بمليارات من اليورو.
ولا
يحتاج المرء إلى تفكير عميق ليدرك مقاصد التهديد التركي من إغراق أوروبا بمئات آلاف
اللاجئين الذين لا يضمن أحد ألا يتسلل بينهم جهاديون يعتزمون تنفيذ هجمات، على غرار
ما حصل في الأعوام الأخيرة في باريس ونيس وبروكسل ولندن.
وإذا
كانت ألمانيا وهولندا والنمسا قد تحملت نعتها بالفاشية و"الصليبية" والنازية،
فإن إردوغان بتوجيهه تلميحات إلى احتمال زعزعته الأمن الأوروبي، يكون تخطى كل قواعد
اللياقة السياسية وبدا ينحدر في مستوى خطابه إلى مستوى الخطاب الذي يطلقه قادة
"داعش" ضد الأوروبيين وإن كان بلهجة مبطّنة لكنها تحمل المضمون ذاته.
إن
إيغال إردوغان في العداء لأوروبا، يدلّ على عمق المأزق الذي يواجهه الرجل في حال أتت
نتائج الاستفتاء سلبية. ومما لا يرقى إليه الشك أن أوّل ما يرمي إليه الرئيس التركي
من وراء إعلاء نبرة الخطاب في مواجهة الأوروبيين، هو شد عصب الأتراك وجعلهم يرون فيه
القائد الوحيد القادر على الدفاع عن المصالح التركية وتالياً تأييده في الاستفتاء المزمع.
وفضلاً
عن ذلك، لم ينسَ إردوغان أن أوروبا كانت الأكثر انتقاداً لحملة التطهير التي تلت المحاولة
الانقلابية الفاشلة في تموز/ يوليو الماضي. وأكثر من مرة أبدى المسؤولون الأوروبيون
وخصوصاً المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل امتعاضاً من الإجراءات التي اتخذتها السلطات
التركية بحق عشرات آلاف الموظفين لمجرد الاشتباه في أنهم من اتباع الداعية فتح الله
غولن المتهم بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية. والإتحاد الأوروبي أبدى أكثر من مرة
القلق حيال إمكان إعادة العمل بعقوبة الإعدام في تركيا تحت ذريعة مواجهة الانقلابيين
وحماية الديموقراطية. وإضافة إلى ذلك لا تتشارك دول أوروبية مع إردوغان في توصيفه للمشكلة
الكردية في بلاده باعتبارها إرهاباً، وإنكار أنّ لدى ثمّة شريحة واسعة من الشعب مطالب
عادلة.
وأوروبا
هي الأكثر حساسية حيال التعديلات الدستورية المطروحة في الاستفتاء، نظراً إلى كون الصلاحيات
الجديدة التي سيتمتع بها إردوغان تجعل منه حاكماً مطلقاً بقناع ديموقراطي. ولعلّ هذه
المواقف الأوروبية في مجملها هي التي تجعل إردوغان يفلت من عقاله ويعتبر أن أوروبا
لا تريد له الفوز في الإستفتاء وإلا كانت منحته تسهيلات جمّة لا سيما إطلاق يديه في
الدعاية الإنتخابية في أوساط الجاليات التركية خصوصاً في ألمانيا التي تقطنها جالية
تركية يبلغ تعدادها بالملايين.
ومن
الآن وحتى موعد الإستفتاء من المرجح أن يرفع إردوغان نبرة العداء لأوروبا أكثر. وكلّما
وجد أن فرصه بالحصول على الغالبية المطلوبة، موضع شك، سيزيد منسوب العداء للخارج ويصوّر
أن العالم كله وليس أوروبا فقط تتآمر عليه لمنعه من بعث أمجاد السلطنة العثمانية من
جديد شرقاً وغرباً.