مَن هي قبائل الثارات المذهبية؟
إذا كانت الثورة الصناعية هي الرافِعة الاجتماعية للثورة البرجوازية والعقلانية والعِلم والمجتمع المدني ودولة العقد الاجتماعي. وإذا كانت (الطبقة) هي الرافعة الاجتماعية للثورات الاشتراكية، سواء البروليتاريا حسب ماركس أو البروليتاريا والفلاحون حسب لينين وماو تسي تونغ فإن للمذاهب في التاريخ العربي روافِع أخرى تنسجم مع حال ما قبل الدولة البرجوازية، أو حال هذه الدولة (الكولونيالية) في مراحل هبوطها وتفسّخها.
وهذه الروافِع هي القبائل أو التحالفات القبلية. فما من مذهب ترعرع خارج قبيلته أو تحالف قبلي بعينه، وهو ما يظهر في الوقت نفسه، كم تبدو الصراعات المذهبية في جوهرها وحقيقتها امتداداً لثارات وصراعات قبلية.
ابتداء من الحال أو الظاهرة الكبرى، فإن قُريش كانت وظلّت واستمرّت طيلة قرون مديدة هي مادة (النواصب) في العهد الراشدي والأموي والعباسي. بالمقابل فإن المذاهب الأخرى تحصّنت في الغالب خلف تحالفات قبلية أخرى .
الإباضية وجدت في قبائل الأزد الحصن الراسِخ لها. والخوارج وجدوا في قبائل مُحدّدة مادة لدعوتهم ومحاربيهم من تميم في الصحاري الشرقية العربية إلى زناتة شمال أفريقيا. كما قامت الدعوة الفاطمية على قبيلة كتامة البربرية، وقامت الدولة البويهية المتشيّعة على قبيلة الديلم.
أما بالنسبة للمذاهب والقبائل خارج الحال العربية، فقد شكّلت القبائل التركية القوة الرئيسية للاصطفافات المذهبية الأخرى. ومن ذلك على سبيل المثال: - السلاجقة ثم أبناء عمومتهم من بني عثمان، الذين ترافق نفوذهم وصعودهم بخلطة مذهبية من أفكار الإمام أبي حنيفة و تيّارات صوفية (بكتاشية، وتبريزية، ومولوية.. الخ).- العائلة الصفوية، التي تبنّت التشيّع وينسبها البعض جاهلاً أو عامداً، إلى الفرس. بينما هي عائلة تركية أخذت اسمها أيام الشاه إسماعيل من صفي الدين المولود في طوس الأذرية. ولم يكن شيعياً حينها. - ومن القبائل التركية الأخرى التي ترافقت مع (أديان مُحدّدة) قبائل الخزر التي تهوّدت في عهد الملك بولان في أواخر الدولة الأموية، وذلك حسب المؤرّخ اليهودي آرثر ميلر. ويعتبر بعض المؤرّخين الأتراك أن دولة الخزر المذكورة، هي أول ظهور للأتراك على مسرح الأحداث في الشرق الأوسط ..
ووجه المفارقة في العلاقة بين القبائل والمذاهب، هو الاستحضار الراهن لها، سواء في حالات البزوغ أو الانبعاث الامبراطوري لعدد من القوى الاقليمية أو في حالات الانحطاط والتفسّخ لدول سايكس – بيكو التي يُراد لها أمركياً و صهيونياً إخلاء موقعها لكانتونات مذهبية مسلّحة تتنفّس من رئات قبَلية. وتوفر العديد من المرجعيات الاستشراقية مادة إشكالية خصبة لهذه المفارقة، فمن كتابات لورنس صانع الغارات والثورات الصحراوية، إلى مذكّرات صانعة العروش، "جيرترد بيل"، إلى أمين الريحاني في (ملوك العرب) وفيليب الأب (الحاج عبد الله)، إلى "بوركهارت"(الحاج أبو عبد الله اللوزاني)، إلى "أوبنهايم" في كتابه (البدو).. وإذا كانت قُريش والنواصب حاضرة في أعمال "بيل و لورنس"، مقابل آل سعود والوهّابية عند "وركهارت" في أعمال الريحاني والحاج عبد الله، فإن ما كتبه "أوبنهايم" يستحق التأمّل والتمعّن في الحال الراهنة لبادية الشام والعراق والجماعات الأصولية. فعبر أربعة مجلّدات ضخمة يتابع المؤرّخ الألماني، حركة القبائل والمذاهب على امتداد الصحراء العربية، يرى أنه وباستثناءات قليلة (تزدهر) الوهّابية في صفوف عنزه وتحالفاتها وتحظى (بعطف) الإنكليز ورعايتهم حتى أن الرحّالة السويسري، "بوركهارت"، الذي عمل مع المخابرات البريطانية يصف الوهّابية وقبائلها بالمدافعين عن الدين الحنيف ضدّ الأتراك الكفّار والقبائل المُتحالفة معهم. والمقصود بهذه القبائل عند بوركهارت وأوبنهايم، قبائل شمر وتحالفاتها. و ليس بلا معنى أن هذه القبائل كما كانت المَعين الذي لا ينضب لخصوم الوهّابية قبل قرن من الزمان، تكرّر الموقف نفسه تقريباً سواء عبر الصحوات أو الحشد العشائري الذي يقاتل "داعش" والنصرة.