لا عودة عن تطبيق حقّ العودة
كان القرار غريباً عجيباً، فوجئوا به، لكنهم ما لبثوا أن استجمعوا قواهم الذاتية بعد أن عادوا إلى المقولة التي رافقتهم منذ النكبة ومفادها، "ما بيحكّ جلدك إلا ظفرك"، وكما كان الاعتماد على الملوك والرؤساء والجيوش العربية الجرّارة لا يتعدّى أحلاماً تافهة، هكذا بدا لهم الاعتماد على م.ت.ف أيضاً. وعليه قامت مجموعة من الناشطين، في آذار 1995، بالإعلان عن قيام "لجنة الدفاع عن حقوق المُهجّرين"، وفي الاجتماع نفسه أعلن المجتمعون عن تمسّكهم بحقّ العودة ورفض كل البدائل من تبديل أو تعويض أو توطين.
كل نقاش، بطبيعة الحال، مشروع بل مطلوب أيضاً، خاصة وأن أعداد المشاركين في مسيرات العودة في ازدياد ونسبة الشبيبة منهم بشكل خاص، وهم يتطلّعون، بحق، للارتقاء بهذا النشاط إلى المرحلة التطبيقية. مع الوقت تتعزّز مكانة هذا النشاط أكثر وأكثر في وعي جماهيرنا في الداخل كمشروع وطني جامِع يستقطب الغالبية العُظمى من أبناء شعبنا، وهو أكثر ما يُقلق المؤسسة الصهيونية الحاكمة، وعليه فإن أي ترَف أكاديمي، بنيّة صادقة أو خبيثة، بتمويل عربي أو أجنبي، باسم "الواقعية" أو بأسماء أخرى، يمكنه أن يصبّ في مصلحة الحركة الصهيونية وداعميها، التي تسعي بكل قوتها، وبكل أذرعها المادية والسياسية، بصناديقها التي تموّل مراكز أبحاث وجامعات وجمعيات، وأحزاب وشخصيات ذات نفوذ، إلى خلق بديل لحقّ العودة. إن أخطر الاجتهادات هي تلك التي ينخرط فيها أكاديميون وسياسيون فلسطينيون، وتبحث عن طروحات بديلة للعودة، باسم الواقعية السياسية وحقوق الإنسان. منهم، على سبيل المثال، من يقول: إن العودة تعني تهجير اليهود من الأماكن التي سكنوها أو ولدوا فيها، أي من المدن والقرى والأرض التابعة للاجئين، وهذا يعني، كما يدّعون، "مُعالجة الظلم بظلم مساوٍ" وهو ما تروّج له أوساط صهيونية "حمائمية" ترفع شعار "التسامُح المُتبادَل".
وهل يتساوى القاتل والمقتول؟ وهل يُسامح صاحب البيت بحقّه في بيته وأرضه شفقة على من استولى عليهم بالقوة، وباسم حقوق الإنسان؟ مع ذلك لا يجوز أن يبقى نشاط المُهجّرين محصوراً بمسيرة سنوية تقليدية، خشية أن تتحوّل إلى حال روتينية وتشهد تراجعاً، وعليه لا بدّ من تطوير هذا النشاط ليتحوّل إلى خطوات تطبيقية للعودة، أولها عودة مُهجّري الداخل إلى قراهم ومدنهم ولو بشكل رمزي. وكان إعلان جمعية الدفاع عن حقوق المُهجّرين خلال مسيرة الكابري الأخيرة عن قيام "حركة شبيبة العودة"، خطوة هامة في الاتّجاه الصحيح، لتُشكّل هذه الشبيبة ألوية طلائعية لحركة عودة حقيقية وبناء ما دمّره الاحتلال. أربعة شروط أساسية يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار عند مناقشة الموضوع وكيفية تطبيقية: أولاً ، أن تتحوّل المسيرة السنوية إلى مناسبة يُظهِر فيها المُهجّرون في الداخل واللاجئون الفلسطينيون في كل مكان من العالم ، إنهم حركة سياسية واجتماعية واحدة، تشغِل الإعلام العالمي، لا ليوم واحد، بل لمدة أسبوع على الأقل كل سنة، بماهيّة النكبة الفلسطينية وما تعنيه في حياة كل فلسطيني، وتحميل العالم مسؤولية ذلك بالتواطؤ مع الحركة الصهيونية. لحصول ذلك لا بدّ من أن تتحوّل حركة العودة إلى حال سياسية وثقافية، يشارك فيها الشباب الفلسطيني بنتاجه الإبداعي، الثقافي، الأكاديمي، العلمي والاقتصادي، في رسالة واضحة للعالم، مفادها أن الفلسطيني مشارك فعلي في الإنتاج الحضاري، على كل المستويات، ومن حقّه أن يُمارس ذلك في وطنه. ثانياً: أن يتواصل الشباب الفلسطيني في كل مكان في العالم من خلال أطر منظمة محلية، وأخرى إقليمية، وثالثة عالمية، بهدف تنسيق خطواتهم العملية نحو العودة، ولتحقيق هذا الهدف لا بدّ من أن تُمحى كلمة "واقعية" من القاموس الفلسطيني، إلا إذا كانت واقعية ثورية وليست واقعية المهزومين. ويكون الباب مفتوحاً أيضاً للتواصل مع الشباب التقدّمي، العربي والعالمي، والدّفع لتحقيق العودة فعلياً. ثالثاً: أن يكون لدى المجموعات الفلسطينية في الداخل والخارج، الاستعداد للمواجهة مع قوات الاحتلال، بالأساليب والأدوات المُناسبة في كل زمان ومكان، عند العودة الفعلية إلى المدن والقرى الفلسطينية التي هُجّروا منها، وهذا يحتاج إلى تخطيط هادئ وعمل ميداني جريء وتضحيات كبرى. يساندهم في ذلك جيش إعلامي الكتروني، يصل إلى كل مكان في العالم. رابعاً، وهو شرط لا يقلّ أهمية من الشروط السابقة، أن تكون قضية العودة فوق كل اعتبار حزبي أو طائفي، أو جهوِيّ إقليمي أو دولي. وأن يكون لحركة العودة ممثلون في كل هيئة محلية أو إقليمية أو دولية، لخدمة القضية الأساس، وعدم السماح بتحوّل الاتّجاه عكسياً، فيصبح هناك ممثل وصوت لكل جهة أو حزب أو هيئة في صفوف حركة العائدين.